Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 90-90)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لَنْ تفيد تأبيد نَفْي الفعل في المستقبل ، تقول : أنا لم أصنع هذا ، ولن أصنعه . أي : في المستقبل . ومعلوم أن الإنسان ابن أغيار ، لا يحكمه حال واحد بل هو مُتقلِّب بين أحوال شتى طوال حياته ، والله تعالى وحده هو الذي لا يتغيّر ، وما دام الإنسان ابنَ أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال ، فليس له أنْ يحكمَ على شيء حُكْماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه ، فالذي يملك الحكم القاطع هو الحق سبحانه الذي لا تتناوله الأغيار . لذلك فالإنسان مثلاً إذا صعد حتى القمة نخاف عليه الهبوط لأنه من أهل الأغيار ، ولا يدوم له حال ، إذن : فماذا بعد القمة ؟ وقد عَبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله : @ إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُهُ تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيل تَمّ @@ والعجيب أن الناس يتطلعون في نعمة الله إلى التمام ، فيقول أحدهم : يا حبَّذا ، لو حدث كذا لَتَمتْ هذه النعمة ، وهم لا يدرون أن هذا النقص في النعمة سبب بقائها ، فلو تَمَّتْ لك النعمة وأنت من أهل الأغيار ، فماذا تنتظر إلا زوالها ؟ فَلْيَرْضَ كلُّ صاحب نعمة بما فيها من نقص ، فلعل هذا النقص يردُّ عنه عَيْن حاسد ، أو حقد حاقد . فبعض الناس يرزقه الله بالأولاد ويُعينه على تربيتهم ، ولحكمة يفشل أحدهم فيحزن لذلك ويألم أشد الألم ، ويقول : لو أن هذا الولد … وهو لا يدرك حكمة الله من وراء هذا النقص ، وأنه حارسٌ للنعمة في الآخرين ، وأنه التميمة التي تحميه وتردُّ عنه ما يكره . لذلك لما أراد المتنبي أن يمدح سيف الدولة قال له : @ شَخِصَ الأَنامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِمْ بعَيْبٍ وَاحِد @@ أي : نظروا إليك معجبين بما فيك من كمال ، فاعمل عملاً سيئاً واحداً يصد عنك شرَّ أعينهم . إذن : لن تفيد تأبيد النفي في المستقبل ، وهذا أمر لا يملكه إلا مالك الأحداث سبحانه وتعالى ، أمّا صاحب الأغيار فليس له ذلك ، والذين آمنوا فيما بعد برسول الله ممَّنْ قالوا هذه المقولة : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . نستطيع أن نقول لهم : لقد أوقعتْكم لن في الكذب لأنكم أبَّدتُم نَفْي الإيمان ، وها أنتم مؤمنون ، ولم يُفجِّر لكم النبي ينبوعاً من الأرض . وعند فتح مكة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخَنْدَمَة ما قال ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً معتذراً وخرج محارباً مع خالد بن الوليد في اليرموك ، وحين طُعِن الطعنة المميتة ، وحمله خالد ، فإذا به يقول له : أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله ؟ إذن : مَنْ يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها ، مالكاً لزمامها ، ضامناً لنفسه أَلاَّ يتغير ، وأَلاَّ تتناوله الأغيار ، ولا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى . والمتدبّر لأسلوب القرآن في سورة الكافرون يجد هذه المسألة واضحة ، حيث يقول تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } [ الكافرون : 1 - 4 ] . هكذا نفتْ الآية عبادة كل منهما لإله الآخر في الزمن الحاضر ، ثم يقول تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 4 - 5 ] لينفي أيضاً احتمال العبادة في المستقبل ، إذن : فليس في الآية تكرار ، كما يرى بعض قِصَار النظر . ولك الآن أنْ تسألَ : كيف نفى القرآن الحدث في المستقبل ؟ نقول : لأن المتكلّم هنا هو الحق سبحانه وتعالى الذي يملك الأحداث ولا تُغيِّره الأغيار ، ولا تتسلط عليه ، فحكم على المستقبل هذا الحكم القاطع وأبَّد النَّفي فيه . ثم يقول تعالى : { حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . وفي آية أخرى قال : { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً … } [ القمر : 12 ] . فالتفجير : أن تعمل في الأرض عملية تُخرِج المستتر في باطنها على ظهرها ، وعين الماء تُخرِج لك الماء من الأرض ، وتأخذ منه حاجتك فلا ينقص لأنها تعوض ما أُخِذ منها بقانون الاستطراق ، وقد يحدث أن يغيض الماء فيها قليلاً . أما الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء ، كما في زمزم مثلاً ، ولا شكَّ أن هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء ، وحاجتهم الشديدة إليه . ويذكر الحق سبحانه أنهم واصلوا حديثهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ … } .