Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 66-66)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه ، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر ، فلم يقُل له مثلاً : إن الله أمرني أن أتبعك ، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب : { هَلْ أَتَّبِعُكَ … } [ الكهف : 66 ] . والرشد : هو حُسْن التصرّف في الأشياء ، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده ، وسبق أن قلنا : إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ ، لكن لا يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشداً ، فقد يكون الإنسان بالغاً وغير راشد ، فقد يكون سفيهاً . لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ … } [ النساء : 6 ] أي : اختبروهم ، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك ، فعليك أنْ تكلّفه بعمل ما لإصلاح حاله ، وتعطيه جزءاً من ماله يتصرَّف فيه تحت عينك وفي رعايتك ، لترى كيف سيكون تصرفه . عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة ، لا أن تجعله في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد ، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته ، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه . إذن : فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك ، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ … } [ النساء : 6 ] وهو سن البلوغ ، ولم يقُلْ بعدها : فادفعوا إليهم أموالهم لأن بعد البلوغ شرطاً آخر { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً … } [ النساء : 6 ] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب : أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك ، وتدفع به في مُعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته ، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه ، فإن لم تأنسْ منه الرشد وحُسْن التصرف فلا تترك له المال يُبدّده بسوء تصرفه . لذلك يقول تعالى في هذا المعنى : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ … } [ النساء : 5 ] ولم يقُلْ : أموالهم لأن السفيه لا مالَ له حال سَفَهه ، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكدون من رُشْده . إذن : فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء ، لكن هل يعني ذلك أن موسى - عليه السلام - لم يكن راشداً ؟ لا ، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول ، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية . أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح ، وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له ، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة لأن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] . وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] . لذلك يقول الشاعر : @ كُلّما ازْدَدْتُ عُلوماً زِدْتُ إيقَانَاً بجهْلِي @@ لأن معنى أنه ازداد عِلْماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس ، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غداً . والإنسان حينما يكون واسعَ الأفق محباً للعلم ، تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها ، فهو في نَهمٍ دائم للعلم لا يشبع منه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب مال " . والشاعر الذي تنَّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزَّهْو بما لديه من علم قليل ، إلا أنه كان متيقظاً لخداعها ، فقال : @ قالتِ النفْسُ قَدْ علِمْتُ كَثِيراً قُلْتُ هَذَا الكثيرُ نَزْعٌ يسِيِرُ @@ ثم جاء بمثل توضيحي : @ تمْلأُ الكُوزَ غَرْفَةٌ مِنْ مُحِيِط فَـيَرى أنَّــهُ المحيــطُ الكَبِـيِرُ @@ ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ … } .