Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 77-77)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استطعم : أي طلب الطعام ، وطلَبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال ، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج ، فلو سأل مالاً لقلنا : إنه يدخره ، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد ، ومنْعُ الطعام عن سائله دليل بُخْل ولُؤْم متأصل في الطباع ، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام فمنعوهما . والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى بُخْل هؤلاء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم ، فلم يقُلْ مثلاً : فأبوا أن يطعموهما ، بل قال : { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا … } [ الكهف : 77 ] وفرْق بين الإطعام والضيافة ، أَبَوْا الإطعام يعني منعوهما الطعام ، لكن أَبَوْا أن يُضيّفوهما ، يعني كل ما يمكن أنْ يُقدَّم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال ، وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوُّره من لُؤمْ هؤلاء الناس . وتلحظ أيضاً تكرار كلمة { أَهْلَ } فلما قال : { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [ الكهف : 77 ] فكان المقام للضمير فيقول : استطعموهم ، لكنه قال : { ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا … } [ الكهف : 77 ] لأنهم حين دخلوا القرية : هل قابلوا كل أهلها ، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول ؟ بالطبع قابلوا بعضهم ، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً ، كأنهما مرّا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى ، كأنهم مجمعون على البُخْل ولُؤْم الطباع . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ … } [ الكهف : 77 ] . أي : لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وَجَدا جداراً يريد أنْ ينقضّ ، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل ، فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى : قَرُب . أي : جداراً قارب أنْ ينهار ، لما نرى فيه من علامات كالتصدُّع والشُّروخ مثلاً . وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيِّقي الأفق ، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فلا مانع لديهم أنْ يكونَ للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه ، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام . ألم يَقُل الحق سبحانه : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ … } [ الدخان : 29 ] . فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدَّتْ مجرد الكلام ، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر ، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر ، فقوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ … } [ الدخان : 29 ] دليل على أنها تبكي على فَقْد الصالحين . وقد سُئِل الإمام علي - رضي الله عنه - عن هذه المسألة فقال : " نعم ، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء وموضع في الأرض ، أما موضعه في الأرض فموضع مُصلاَّه ، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله " . وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكَوْن من حوله ، فالكون ساجد لله مُسبِّح لله طائع لله يحب الطائعين وينبُو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم لذلك العرب تقول : نَبَا به المكان أي : كرهه لأنه غير منسجم معه ، فالمكان طائع وهو عاصٍ ، والمكان مُسبِّح وهو غافل . وعلى هذا الفهم فقوله تعالى : { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ … } [ الكهف : 77 ] قول على حقيقته . إذن : فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء ، وتحزن لفقد الأحبة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث " . ورُوِي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله ، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم . وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا : لا ينبغي أن نقول : سَبَّح الحصى في يد رسول الله لأن الحصى يُسبِّح أيضاً في يد أبي جهل ، لكن نقول : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه . ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء ، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك ، ولغة للطير ، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار ، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار ، وأنها تفرّ من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة . إذن : فلهم وسائل إدراك ، ولهم لغة يتفاهمون بها ، ولهم منطق يعبرون به . ثم يقول الحق سبحانه عن فِعْل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض { فَأَقَامَهُ … } [ الكهف : 77 ] أي : أصلحه ورمَّمه { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً … } [ الكهف : 77 ] . هذا قول موسى - عليه السلام - لما رأى لُؤْمَ القوم وخِسّتهم ، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يُطْعمونا ، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى ، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة ؟ وجاء هذا القول من موسى - عليه السلام - لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل . ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ … } .