Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 83-83)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذو القرنين : هذا لقبه لأنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين ، أو يلبس تاجاً له اتجاهان أو لأنه بلغ قرني الشمس في المشرق وفي المغرب . وقد بحث العلماء في : مَنْ هو ذو القرنين ؟ فمنهم مَنْ قال : هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد ، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب ، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو : أبو الكلام آزاد - وزير المعارف الهندي - إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر ، بل هو قورش الصالح ، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين ، كما أن الإسكندر كان وثنياً ، وكان تلميذاً لأرسطو ، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته . وعلى العموم ، ليس من صالح القصة حَصْرها في شخص بعينه لأن تشخيص حادثة القصة يُضعِف من تأثيرها ، ويصبغها بصِبْغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر . إذن : لو جاء العلم في ذاته سنقول : هذه الحادثة أو هذا العَمَل خاص بهذا الشخص ، والحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يضرب لنا مثلاً يعُمُّ أي شخص ، ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إنْ مكَّنَ الله له ومنحه الله قوة وسلطة ؟ ولو حددَ القرآن هذه الشخصية في الإسكندر أو قورش أو غيرهما لَقُلْنَا : إنه حَدث فرديّ لا يتعدى هذا الشخص ، وتنصرف النفس عن الأُسْوة به ، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها . ولو كان في تعيينه فائدة لَعيَّنه الله لَنَا . وسبق أنْ أوضحنا أن الحق - سبحانه - عندما ضرب مثلاً للذين كفروا ، قال : { ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ … } [ التحريم : 10 ] ولم يُعيّنهما على التحديد لأن الهدف من ضرب المثل هنا بيان أن الرسول المرسَل من الله لهداية الناس لم يتمكّن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه لأن الإيمان مسألة شخصية ، لا سيطرة فيها لأحد على أحد . وكذلك لما ضرب الله مثلاً للذين آمنوا قال : { ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ … } [ التحريم : 11 ] . ففرعون الذي أضَلَّ الناس وادَّعى الألوهية زوجته مؤمنة ، وكأن الحق سبحانه يُلمِّح للناس جميعاً أن رأيك في الدين وفي العقائد رَأْي ذاتي ، لا يتأثر بأحد أيّاً كان ، لا في الهداية بنبي ، ولا في الغواية بأضلِّ الضالين الذي ادعى الألوهية . وهكذا يحفظ الإسلام للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها . إذن : الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجاً وأُسْوة يحتذي بها كل أحد ، وإلاَّ لو شخصتْ لارتبطتْ بهذا الشخص دون غيره ، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها ، بل واسم أبيها ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها ، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم ، لذلك عيَّنها وشخَّصها لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف . أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص ، فهذا يعني أنها صالحة لأنْ تتكرر في أيّ زمان أو في أيّ مكان ، كما رأينا في قصة أهل الكهف ، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً ، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً ، وأبهمهم عدداً ، ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيِّ زمان ، وفي أيِّ مكان ، وبأيِّ عدد . وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ … } [ الكهف : 83 ] نلاحظ أن مادة السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن أخذتْ حيِّزاً كبيراً فيه ، فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة ، إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ … } [ البقرة : 186 ] . وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع ، كما في : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } [ البقرة : 189 ] . وقوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ … } [ البقرة : 215 ] . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ … } [ البقرة : 217 ] . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ … } [ البقرة : 219 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ … } [ البقرة : 219 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ … } [ البقرة : 220 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ … } [ البقرة : 222 ] . { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ … } [ المائدة : 4 ] . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ … } [ الأعراف : 187 ] ثلاث مرات ، [ النازعات : 42 ] . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ … } [ الأنفال : 1 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ … } [ الإسراء : 85 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ … } [ الكهف : 83 ] . { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً … } [ طه : 105 ] . خمسة عشر سؤالاً بالمضارع ، إلا أن الجوابَ عليها مختلف ، وكلها صادرة عن الله الحكيم ، فلا بُدَّ أنْ يكون اختلاف الجواب في كل سؤال له مَلْحظ ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم ، ومنها ما سأله المؤمنون ، السؤال من المؤمنين لرسول الله - وقد نهاهم أنْ يسألوه حتى يهدأوا - إلحاحٌ منهم في معرفة تصرُّفاتهم وإنْ كانت في الجاهلية ، إلا أنهم يريدون أنْ يعرفوا رأي الإسلام فيها ، فكأنهم نَسُوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تُشرَّع كل أمورهم على وَفْق الإسلام . وبتأمّل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون { قُلْ } وهي في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ … } [ البقرة : 186 ] وواحدة وردتْ مقرونة بالفاء { فَقُلْ } وهي قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] . وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل { قُلْ } ، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها ؟ قالوا : حين يقول الحق سبحانه في الجواب { قُلْ } فهذه إجابة على سؤال سُئِلَهُ رسول الله بالفعل ، أي : حدث فعلاً منهم ، أما الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤال لم يُسأله ، ولكنه سيُسأله مستقبلاً . فقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ … } [ طه : 105 ] سؤال لم يحدث بَعْد ، فالمعنى : إذا سألوك فَقُلْ ، وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع . فإذا قُلْتَ : فما الحكمة في أنْ يأتي الجواب في قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ … } [ البقرة : 186 ] خالياً من : قُلْ أو فَقُلْ : مع أن { إِذَا } تقتضي الفاء في جوابها ؟ نقول : لأن السؤال هنا عن الله تعالى ، ويريد سبحانه وتعالى أنْ يُجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من أحد لذلك تأتي الإجابة مباشرة دون واسطة : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ … } [ البقرة : 186 ] . قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ … } [ الكهف : 83 ] أي : عن تاريخه وعن خبره والمهمة التي قام بها : { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ] . وأيُّ شرف بعد هذا الشرف ، إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل ، ويُؤرّخ له في قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به ، ليظل ذِكْره باقياً بقاء القرآن ، خالداً بخلوده ، ويظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله . إنْ دَلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق . فأيُّ ذكْر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه ؟ و { مِّنْهُ } أي : بعضاً من ذِكْره وتاريخه ، لا تاريخه كله . وكلمة ذِكْر وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة ، تلتقي جميعها في الشرف والرفعة ، وفي التذكُّر والاعتبار . وإنْ كانت إذا أُطلقتْ تنصرف انصرافاً أولياً إلى القرآن ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتاب أنزله الله تعالى من الكتب السابقة ، كما جاء في قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . وقد يُطلَق الذكر على ما يتبع هذا من الصِّيت والشرف والرفعة وتخليد الاسم ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } [ الأنبياء : 10 ] . وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ … } [ الزخرف : 44 ] . أي : صيت حَسَن وشرف ورفْعة كون القرآن يذكر هذا الاسم لأن الاسم إذا ذُكِر في القرآن ذاعَ صِيتُه ودَوَّى الآفاق . وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبداً بعد أنْ خُطِف من قومه وَبيع في مكة لخديجة رضي الله عنها ، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد ، فلما عَلِم أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه ، وكلّموا رسول الله في شأن زيد فقال : خَيِّروه . فلما خَيَّروا زيداً قال : ما كنتُ لأختار على رسول الله أحداً ، لذلك أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وسمَّاه زيدَ بن محمد ، فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني ، ونزل قوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ … } [ الأحزاب : 40 ] وقال : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] . فلا تقولوا : زيد بن محمد . وقولوا : زيد بن حارثة ، وهنا حَزِنَ زَيْد لهذا التغيير ، ورأى أنه خسر به شرفاً عظيماً بانتسابه لمحمد ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد ، ويجعل اسمه عَلَماً يتردد في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة ، فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب الله في قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا … } [ الأحزاب : 37 ] . فأيُّ شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف ؟ ونلحظ في هذه الآية : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] أن الحق سبحانه لم يتهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالجور ، فقال : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] فما فعله الرسول كان أيضاً قِسْطاً وعدلاً ، وما أمر الله به هو الأقسط والأعدل . إذن : فذِكْر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير ، وفيه إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله ، ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ … } .