Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 12-12)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلحظ أن الآية الكريمة انتقلتْ بنا نَقْلة واسعة ، وطوَتْ فترة طويلة من حياة يحيى - عليه السلام - فقد كان السياق يتحدث عنه وهو بُشْرى لوالده ، وهو ما يزال في بطن أمه جنيناً ، وفجأة يخاطبه وكأنه أصبح أمراً واقعاً : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ … } [ مريم : 12 ] فقد بلغ مبلغ النُّضْج ، وأصبح أهْلاً لحمْل مهمة الدعوة ، إذن : المسألة مأخوذة مأخَذ الجدِّ ، وهي حقيقة واقعة . وقوله : { خُذِ ٱلْكِتَابَ … } [ مريم : 12 ] أي : التوراة ، وفيها منهج الله الذي يُنظِّم لهم حركة حياتهم { بِقُوَّةٍ … } [ مريم : 12 ] أي : بإخلاص في حِفْظه وحِرْص على العمل به لأن العلم السماوي والمنهج الإلهي الذي جاءكم في التوراة ليس المراد أن تعلمه فقط بل وتعمل به . وإلا فقد قال تعالى في بني إسرائيل : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً … } [ الجمعة : 5 ] فقد حَمَّلهم الله التوراة ، فلم يحملوها ولم يعملوا بها . والقوة : هي الطاقة الفاعلة التي تدير دولاب الحياة حركةً وسكوناً ، وخُذْ مثلاً سفينة الفضاء التي تنطلق إلى الفضاء الخارجي ، وتظل تدور فيه عدة سنوات وتتساءل : من أين لها بالوقود الذي يُحرّكها طوال هذه المدة ؟ والحقيقة أنها لا تحتاج : إلى وقود إلا بمقدار ما يُخرِجها من مدار الجاذبية الأرضية ، فإذا ما خرجت من نطاق الجاذبية وهي متحركة تظل متحركة ولا تتوقف إلا بقوة توقفها ، وكذلك الساكن يظل ساكناً إلى أنْ تأتيَ قوة تحركه . إذن : القوة إمّا أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسْكِن المتحرك وتصده ، ومن ذلك ما نراه في السكك الحديدية من مصدَّات تُوقِف القطارات لأنك إنْ أردتَ أن توقف القطار تمنع عنه الوقود ، لكن يظل به قوة دفع تحركه تحتاج إلى قوة معاكسة توقفه ، وهذا ما يسمونه قانون العطالة . يعني : إن كان الشيء متحركاً فيحتاج إلى قوة توقفه ، وإن كان ساكناً يحتاج إلى قوة تحركه . ومن ذلك قانون القصور الذاتي الذي تعلمناه في المدارس ، وتلاحظه إذا تحركتْ بك السيارة تجد أن جسمك يندفع للخلف لأنها تحركتْ للأمام وأنت ساكن ، فإنْ توقفتْ السيارة تحرَّك جسمك للأمام لأنها توقفت وأنت متحرك . إذن : هذه الأشياء التي تتحرك في الكون أو الساكنة نتيجة قوة . فقوله تعالى : { خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ … } [ مريم : 12 ] لأن الكتاب فيه أوامر وفيه نَوَاهٍ ، يأمر بالخير وينهاك عن الشر ، فإنْ أمركَ بالخير وأنت لا تفعله تحتاج إلى قوة دَفْع تدفعك إلى الخير ، وكأنك كنتَ ساكناً تحتاج إلى قوة تحركك ، وإنْ نهاك عن الشر وأنت تفعله فأنت في حاجة إلى قوة تمنعك وتوقف حركتك في الشر . والمنهج هو هذه القوة التي تُحرِّكك إلى الخير وأنت ساكن ، وتُسكنك عن الشر وأنت متحرك . ثم يقول تعالى : { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] الحكم : العلم والفهم للتوراة ، أو الطاعة والعبادة ، { صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] في سِنٍّ مبكرة لأن المسألة عطاء من الله لا يخضع للأسباب ، فجاء يحيى عليه السلام مُبكِّر النضج والذكاء ، يفوق أقرانه ، ويسبق زمانه ، وقد أُثِر عنه وهو صغير أنْ دعاه أقرانه للعب فقال لهم : " ما للعب خُلِقْنا " . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا … } .