Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كما قال الحق سبحانه لزكريا حينما تعجَّبَ أنْ يكون له ولد : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ … } [ مريم : 9 ] أي : أنا أعرف ما أنت فيه من كِبَر السن ، وأن امرأتك عاقر لا تلِد ، لكن الأمر جاء من الله وصدر حكمه ، وهو وحده الذي يملك التنفيذ ، فَلِمَ التعجب إذن ؟ وهنا نجد بعض المتورِّكين على القرآن يعترضون على قوله تعالى : كَذَلِكَ بالفتح في قصة زكريا وبالكسر في قصة مريم كذلكِ ، والسياق والمعنى واحد ، وأيُّهما أبلغ من الأخرى ، وإنْ كانت أحدهما بليغة فالأخرى غير بليغة ؟ وهذا الاعتراض منهم ناتج عن قصور فَهْمهم لكلام الله ، فكلمة كذلك عبارة عن ذا اسم إشارة ، وكاف الخطاب التي تُفتح في خطاب المذكر ، وتُكسر في خطاب المؤنث . وهنا أيضاً قال : ربك أي : الذي يتولى تربيتك ورعايتك ، والذي يُربيه ربُّه يربيه تربية كاملة تعينه على أداء مهمته المرادة للمربِّي . وقوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ … } [ مريم : 21 ] كما قال في مسألة البعث بعد الموت : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [ الروم : 27 ] فكلمة هيّن وأَهْوَن بالنسبة للحق - تبارك وتعالى - لا تُؤخَذ على حقيقتها لأن هَيِّن وأهوَنَ تقتضي صعب وأصعب ، وهذه مسائل تناسب فِعْلَ الإنسان في معالجته للأشياء على قَدْر طاقته وإمكاناته ، أما بالنسبة للخالق سبحانه فليس عنده هَيِّن وأهون منه لأنه سبحانه لا يفعل الأفعال مُعَالجةً ، ولا يزاولها ، وإنما بقوله تعالى كُنْ . فالحق سبحانه يخاطبنا على قَدْر عقولنا ، فقوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ … } [ مريم : 21 ] أي : بمنطقكم أنتم إنْ كنت قد خَلقْتكم من غير شيء ، فإعادتكم من شيء موجود أمر هَيِّن . ثم يقول تعالى : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا … } [ مريم : 21 ] . هل كان الغرض من خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة أن يُظهِر الحق سبحانه قدرته في الخلق وطلاقة قدرته فقط ؟ لا ، بل هناك هدف آخر { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ … } [ مريم : 21 ] أي : أمراً عجيباً ، يخرج عن مألوف العادة والأسباب ، كما نقول : هذا آية في الحُسْن ، آية في الذكاء ، فالآية لا تُقال إلا للشيء الذي يخرج عن معتاد التناول . والآية هنا أن الخالق - تبارك وتعالى - كما خلق آدم - عليه السلام - من غير أب أو أم ، وخلق حواء من غير أم ، خلق عيسى - عليه السلام - من أم دون أب ، ثم يخلقكم جميعاً من أب وأم ، وقد يوجد الأب والأم ولا يريد الله لهما فيجعل مَنْ يشاء عقيماً . إذن : فهذا الأمر لا يحكمه إلا إرادة المكوِّن سبحانه . فالآية للناس في أنْ يعلموا طلاقة قدرته تعالى في الخَلْق ، وأنها غير خاضعة للأسباب ، وليستْ عملية ميكانيكية ، بل إرادة للخالق سبحانه أن يريد أو لا يريد . لكن ، أكانتْ الآية في خَلْق عيسى عليه السلام أَمْ في أمه ؟ كان من الممكن أنْ يوجد عيسى من أب وأم ، فالآية - إذن - في أمه ، إنما هو السبب الأصيل في هذه الآية لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً … } [ المؤمنون : 50 ] فعيسى ومريم آية واحدة ، وليسا آيتين لأنهما لا ينفصلان . ثم يقول تعالى : { وَرَحْمَةً مِّنَّا … } [ مريم : 21 ] ووجْه الرحمة في خَلْق عيسى عليه السلام على هذه الصورة ، أنه سبحانه يرحم الناس من أنْ يشكُّوا في أن قدرة الله منوطة بالأسباب ومتوقفة عليها ، ولو كان هذا الشكُّ مجرد خاطر ، فإنه لا يجوز ولا يصحّ بالنسبة للخالق سبحانه ، وكأنه تبارك وتعالى يرحمنا من مجرد الخواطر بواقع يؤكد أن طلاقة القدرة تأتي في الخَلْق من شيء ، ومن بعض شيء ، ومن لا شيء . وقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] أي : مسألة منتهية لا تقبل المناقشة ، فإياك أن تناقش في كيفيتها لأن الكلام عن شيء في المستقبل إنْ كان من متكلم لا يملك إنفاذ ما يقول فيمكن ألاَّ يتم مراده لأيِّ سبب من الأسباب كأن تقول : سأفعل غداً كذا وكذا ، ويأتي غد ويحول بينك وبين ما تريد أشياء كثيرة ربما تكون خارجة عن إرادتك ، إذن : فأنت لا تملك كُلَّ عناصر الفعل . أما إذا كان الكلام من الله تعالى الذي يملك كل عناصر الفعل فإن قوله حَقٌّ وواقع ، فقال تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] . ولما تكلمنا عن تقسيمات الأفعال بين الماضي الذي حدث قبل الكلام ، والمضارع الذي يحدث في الحال ، أو في الاستقبال قلنا : إن هذه الأفعال بالنسبة للحق سبحانه تنحل عنها الماضوية والحالية والاستقبالية . فإذا قال تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفتح : 14 ] فهل كان الحق سبحانه غفوراً رحيماً في الماضي ، وليس كذلك في الحاضر والمستقبل ؟ لا ، لأن الحق سبحانه كان ولا يزال غفوراً رحيماً ، فرحمتُه ومغفرتُه أزلية حتى قبل أنْ يوجدَ مَنْ يغفر له ومَنْ يرحمه . لذلك جاء الفعل بصيغة الماضي ، فالصفة موجودة فيه سبحانه أزلاً ، فهو سبحانه خالق قبل أن يخلق الخَلْق وبصفة الخَلْق خَلَقَ ، كما ضربنا مثلاً لذلك : نقول فلان شاعر ، فهل هو شاعر لأنه قال قصيدة ؟ أم قال القصيدة لأنه شاعر ، وبالشعر صنع القصيدة ؟ إذن : فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة ، ولولا وجود الصفة فيه ما قال . فالصفة - إذن - أزلية في الحق سبحانه ، فإذا قلت : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفتح : 14 ] فقد ثبتتْ له هذه الصفة أزلاً ، ولأنه سبحانه لا يتغير ، ولا يعارضه أحد فقد بقيتْ له ، هذا معنى : كان ولا يزال . وهذه المسألة واضحة في استهلال سورة النحل : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] لذلك وقف بعض المستشرقين أمام هذه الآية ، كيف يقول سبحانه أَتَى بصيغة الماضي ، ثم يقول : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] أي : في المستقبل ؟ نقول : لأن قوله تعالى : أتَى فهذه قضية منتهية لا شكّ فيها ولا جدالَ ، فليس هناك قوة أخرى تعارضها أو تمنع حدوثها لذلك جاءت بصيغة الماضي وهي في الواقع أمر مستقبل . ثم يقول الحق سبحانه : { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ … } .