Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 2-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الذكْر : له معانٍ متعددة ، فالذكْر هو الإخبار بشيء ابتداءً ، والحديث عن شيء لم يكُنْ لك به سابق معرفة ، ومنه التذكير بشيء عرفته أولاً ، ونريد أن نُذكِّرك به ، كما في قوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . ويُطلَق الذكْر على القرآن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وفي القرآن أفضل الذكر ، وأصدق الأخبار والأحداث . كما يُطلق الذكر على كل كتاب سابق من عند الله ، كما جاء في قوله تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . والذكْر هو الصِّيت والرِّفْعة والشرف ، كما في قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ … } [ الزخرف : 44 ] وقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } [ الأنبياء : 10 ] أي : فيه صِيتكم وشرفكم ، ومن ذلك قولنا : فلان له ذِكْر في قومه . ومن الذكْر ذِكْر الإنسان لربه بالطاعة والعبادة ، وذكْر الله لعبده بالمثوبة والجزاء والرحمة ، ومن ذلك قوله تعالى : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ … } [ البقرة : 152 ] . فقوله تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ … } [ مريم : 2 ] أي : هذا يا محمد خبر زكريا وقصته ورحمة الله به . والرحمة : هي تجليّات الراحم على المرحوم بما يُديم له صلاحه لمهمته ، إذن : فكلُّ راحم ولو من البشر ، وكلُّ مرحوم ولو من البشر ، ماذا يصنع ؟ يعطى غيره شيئاً من النصائح تُعينه على أداء مهمته على أكمل وجه ، فما بالك إنْ كانت الرحمة من الخالق الذي خلق الخلق ؟ وما بالك إذا كانت رحمة الله لخير خَلْقه محمد ؟ إنها رحمة عامة ورحمة شاملة لأنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء وأكرمهم وخاتمهم ، فلا وَحْيَ ولا رسالة من بعده ، ولا إكمال . إذن فهو أشرف الرسل الذين هم أشرف الخَلْق ، ورحمة كل نبي تأخذ حظها من الحق سبحانه بمقدار مهمته ، ومهمة محمد أكرم المهمات . وكلمة رَحْمَة هنا مصدر يؤدي معنى فعله ، فالمصدر مثل الفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول ، كما نقول : آلمني ضَرْب الرجل ولدَه ، فمعنى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] أي : رحم ربُّك عبده زكريا . لذلك قال تعالى : { رَحْمَةِ رَبِّكَ … } [ مريم : 2 ] لأنها أعلى أنواع الرحمة ، وإن كان هنا يذكر رحمته تعالى بعبده زكريا ، فقد خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فرحمة الله تعالى بمحمد ليست رحمة خاصة به ، بل هي رحمة عامة لجميع العالمين ، وهذه منزلة كبيرة عالية . فالمراد من { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] يعنى هذا الذي يُتلَى عليك الآن يا محمد هو ذِكْر وحديث وخبر رحمة ربك التي هي أجلُّ الرحمات بعبده زكريا . وسبق أن أوضحنا أن العبودية للخَلْق مهانة ومذلَّة ، وهي كلمة بشعة لا تُقبل ، أما العبودية لله تعالى فهي عِزٌّ وشرف ، بل مُنتهَى العِزّ والشرف والكرامة ، وعللنا ذلك بأن العبودية التي تسوء وتُحزِن هي عبودية العبد لسيد يأخذ خيره ، أما العبودية لله تعالى فيأخذ العبد خير سيده . لكن ، ما نوع الرحمة التي تجلى الله تعالى بها حين أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بخبر عبده زكريا ؟ قالوا : لأنها رحمة تتعلق بطلاقة القدرة في الكون ، وطلاقة القدرة في أن الله تبارك وتعالى خلق للمسبِّبات أسباباً ، ثم قال للأسباب : أنت لست فاعلة بذاتك ، ولكن بإرادتي وقدرتي ، فإذا أردتُك ألاَّ تفعلي أبطلْتُ عملك ، وإذا كنت لا تنهضين بالخير وحدك فأنا أجعلك تنهضين به . ومن ذلك ما حدث في قصة خليل الله إبراهيم حين ألقاه الكفار في النار ، ولم يكن حظ الله بإطفاء النار عن إبراهيم ، أو بجَعْل النار بَرْداً وسلاماً على إبراهيم أن يُنجي إبراهيم لأنه كان من الممكن ألاَّ يُمكّنَ خصوم إبراهيم عليه السلام من القبض عليه ، أو يُنزِل مطراً يُطفئ ما أوقدوه من نار ، لكن ليست نكاية القوم في هذا ، فلو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم ، أو نزل المطر فأطفأ النار لقالوا : لو كُنَّا تمكنّا منه لفعلنا به كذا وكذا ، ولو لم ينزل المطر لفعلنا به كذا وكذا . إذن : شاءت إرادة الله أنْ تكيد هؤلاء ، وأن تُظهِر لهم طلاقة القدرة الإلهية فتُمكّنهم من إبراهيم حتى يلقوه في النار فعلاً ، ثم يأتي الأمر الأعلى من الخالق سبحانه للنار أن تتعطل فيها خاصية الإحراق : { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] . وكذلك في قصة رحمة الله لعبده زكريا تعطينا دليلاً على طلاقة القدرة في مسألة الخَلْق ، وليلفتنا إلى أن الخالق سبحانه جعل للكون أسباباً ، فمَنْ أخذ بالأسباب يصل إلى المسبَّب ، ولكن إياكم أنْ تُفتَنوا في الأسباب لأن الخالق سبحانه قد يعطيكم بالأسباب ، وقد يُلغيها نهائيا ويأتي بالمسبِّبات دون أسباب . وقد تجلَّتْ طلاقة القدرة في قصة بَدْء الخَلْق ، فنحن نعلم أن جمهرة الناس وتكاثرهم يتم عن طريق التزاوج بين رجل وامرأة ، إلا أن طلاقة القدرة لا تتوقف عند هذه الأسباب ، والخالق سبحانه يُدير خلقه على كُلِّ أوجه الخَلْق ، فيأتي آدم دون ذكر أو أنثى ، ويخلق حواء من ذكر دون أنثى ، ويخلق عيسى من أنثى بدون ذكر . فالقدرة الإلهية - إذن - غير مُقيَّدة بالأسباب ، وتظلّ طلاقة القدرة هذه في الخَلْق إلى أنْ تقومَ الساعة ، فنرى الرجل والمرأة زوجين ، لكن لا يتم بينهما الإنجاب وتتعطل فيهما الأسباب حتى لا نعتمد على الأسباب وننسى المسبِّب سبحانه ، فهو القائل : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49 - 50 ] . وطلاقة القدرة في قصة زكريا عليه السلام تتجلى في أن الله تعالى استجاب لدعاء زكريا في أنْ يرزقَه الولد . قال تعالى : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] . أي : رحمه الله ، لكن متى كانت هذه الرحمة ؟ يقول الحق تبارك وتعالى : { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ … } .