Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : في الوقت الذي نادى فيه ربه نداءً خفياً . والنداء لَوْنٌ من ألوان الأساليب الكلامية ، والبلاغيون يقسمون الكلام إلى خبر ، وهو أن تخبر عن شيء بكلام يحتمل الصدق أو الكذب . وإنشاء ، وهو أنْ تطلب بكلامك شيئاً ، والإنشاء قَوْلٌ لا يحتمل الصدق أو الكذب . والنداء من الإنشاء لأنك تريد أن تنشىء شيئاً من عندك ، فلو قُلْت : يا محمد فأنت تريد أن تنشئ إقبالاً عليك ، فالنداء - إذن - طلَبُ الإقبال عليك ، لكن هل يصح أن يكون النداء من الله تعالى بهذا المعنى ؟ إنك لا تنادي إلا البعيد عنك الذي تريد أن تستدنية منك . فكيف تنادى ربك - تبارك وتعالى - وهو أقرب إليك من حبل الوريد ؟ وكيف تناديه سبحانه وهو يسمعك حتى قبل أن تتكلم ؟ فإذا كان إقباله عليك موجوداً في كل وقت ، فما الغرض من النداء هنا ؟ نقول : الغرض من النداء : الدعاء . ووَصْف النداء هنا بأنه : { نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] لأنه ليس كنداء الخَلْق للخَلْق ، يحتاج إلى رَفْع الصوت حتى يسمع ، إنه نداء لله - تبارك وتعالى - الذى يستوي عنده السر والجهر ، وهو القائل : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [ الملك : 13 ] . ومن أدب الدعاء أنْ ندعوَه سبحانه كما أمرنا : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً … } [ الأعراف : 55 ] . وهو سبحانه { يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] أي : وما هو أَخْفى من السر لأنه سبحانه قبل أن يكون سِرّاً ، علم أنه سيكون سراً . لذلك ، جعل الحق سبحانه أحسن الدعاء الدعاء الخفي لأن الإنسان قد يدعو ربه بشيء ، إنْ سمعه غيره ربما استنقصه ، فجعل الدعاء خَفياً بين العبد وربه حتى لا يُفتضحَ أمره عند الناس . أما الحق سبحانه فهو ستَّار يحب الستر حتى على العاصين ، وكذلك ليدعو العبد رَبَّه بما يستحي أنْ يذكره أمام الناس ، وليكون طليقاً في الدعاء فيدعو ربه بما يشاء لأنه ربُّه ووليه الذي يفزع إليه . وإنْ كان الناس سيحزنون ويتضجرون إن سألتهم أدنى شيء ، فإن الله تعالى يفرح بك أن سألته . لكن لماذا أخفى زكريا دعاءه ؟ دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ، ولكن كيف يتحقق هذا المطلب وقد بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر ؟ فكأن الأسباب الموجودة جميعها مُعطَّلة عنده لذلك توجه إلى الله بالدعاء : يا رب لا ملجأ لي إلا أنت فأنت وحدك القادر على خَرْق الناموس والقانون ، وهذا مطلب من زكريا جاء في غير وقته . أخفاه أيضا لأنه طلب الولد في وجود أبناء عمومته الذين سيحملون منهجه من بعده ، إلاّ أنه لم يأتمنهم على منهج الله لأن ظاهر حركتهم في الحياة غير متسقة مع المنهج ، فكيف يأمنهم على منهج الله وهم غير مؤتمنين على أنفسهم ؟ فإذا دعا زكريا ربه أنْ يرزقه الولد ليرث النبوة من بعده ، فسوف يغضب هؤلاء من دعاء زكريا ويعادونه لذلك جاء دعاؤه خفياً يُسِرُّه بينه وبين ربه تعالى . سؤال آخر تنبغي الإجابة عليه هنا : لماذا يطلب زكريا الولد في هذه السن المتأخرة ، وبعد أن بلغ من الكبر عتياً ، وأصبحت امرأته عاقراً ؟ لقد أوضح زكريا عليه السلام العلة في ذلك في الآيات القادمة فقال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ … } [ مريم : 6 ] . إذن : فالعِلَّة في طلب الولد دينية مَحْضة ، لا يطلبه لمغْنَم دنيوي ، إنما شغفه بالولد لأنه لم يأمن القوم من بعده على منهج الله وحمايته من الإفساد . لذلك قوله : يرثني هنا لا يفهم منه ميراث المال كما يتصوره البعض لأن الأنبياء لا يورثون ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وبذلك يخرج النبي من الدنيا دون أن ينتفع أحد من أقاربه بماله حتى الفقراء منهم . فالمسألة مع الأنبياء خالصة كلها لوجه الله تعالى لذلك قال بعدها : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ … } [ مريم : 6 ] أي : النبوة التي تناقلوها . فلا يستقيم هنا أبداً أن نفهم الميراث على أنه ميراث المال أو متاع الدنيا الفاني . ومن ذلك قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ … } [ النمل : 16 ] ففي أيِّ شيء ورثه ؟ أورثه في تركته ؟ إذن : فما موقف إخوته الباقين ؟ لا بد أنه ورثه في النبوة والملك ، فالمسألة بعيدة كل البعد عن الميراث المادي . ثم يقول الحق سبحانه أن زكريا عليه السلام قال : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ … } .