Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 58-58)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أُولَـٰئِكَ … } [ مريم : 58 ] أي : الذين تقدَّموا وسبق الحديث عنهم من الأنبياء والرسل { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ … } [ مريم : 58 ] أي : مباشرة مثل إدريس عليه السلام { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ … } [ مريم : 58 ] الذين جاءوا بعد إدريس مباشرة { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ … } [ مريم : 58 ] أي : الذين جاءوا بعد نوح . وقد انقسموا إلى فرعين من ذرية إبراهيم . الأول : فرع إسحاق الذي جاء منه جمهرة النبوة ، بداية من يعقوب ، ثم يوسف ، ثم موسى وهارون ، ثم داود وسليمان ، ثم زكريا ويحيى ، ثم ذو الكفل ، ثم أيوب ، ثم ذو النون . والفرع الآخر : فرع إسماعيل عليه السلام الذي جاء منه جماع جواهر النبوة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . { وَإِسْرَائِيلَ … } [ مريم : 58 ] هو نبيّ الله يعقوب { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ … } [ مريم : 58 ] الذين هديناهم واجتبيناهم . أي : اخترناهم واصطفيناهم للنبوة { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . لماذا قال { آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [ مريم : 58 ] ولم يقُلْ : آيات الله ؟ قالوا : لأن آيات الله تحمل منهجاً وتكليفاً ، وهذا يشقُّ على الناس ، فكأنه يقول لنا : إياكم أنْ تفهموا أن الله يُكلّفكم بالمشقة ، وإنما يُكلّفكم بما يُسعِد حركة حياتكم وتتساندون ، ثم يسعدكم به في الآخرة لذلك اختار هنا صفة الرحمانية . وقوله : { خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] لم يقُل : سجدوا ، بل سقطوا بوجوههم سريعاً إلى الأرض . وهذا انفعال قَسْري طبيعي ، لا دَخْلَ للعقل فيه ولا للتفكير ، فالساجد يستطيع أنْ يسجدَ بهدوء ونظام ، أما الذي يخرُّ فلا يفكر في ذلك ، وهذا أشبه بقوله تعالى : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ … } [ النحل : 26 ] أي : سقط عليهم فجأة . وهذا الانفعال يُسمُّونه " انفعال نزوعي " ناتج عن الوجدان ، والوجدان ناتج عن الإدراك ، وهذه مظاهر الشعور الثلاثة : الإدراك ، ثم الوجدان ، ثم النزوع . والإنسان له حواس يُدرِك بها : العين والأذن والأنف واللسان … الخ . فهذه وسائل إدراك المحسّات ، فإذا أدركتَ شيئاً بحواسِّك تجد له تأثيراً في نفسك ، إما حُباً وإما بُغْضاً ، إما إعجاباً وإما انصرافاً ، وهذا الأثر في نفسك هو الوجدان ، ثم يصدر عن هذا الوجدان حركة هي " النزوع " . فمثلاً ، لو رأيتَ وردة جميلة فهذه الرؤيا " إدراك " ، فإنْ أُعجبْتَ بها وسُ رِرْتَ فهذا " وجدان " ، فإنْ مددْتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " . والشرع لا يحاسبك على الإدراك ولا على الوجدان ، لكن حين تمد يدك لقطف هذه الوردة نقول لك : قفْ فهذه ليست لك ، ولا يمنعك الشارع ويتركك ، إنما يمنعك ويوحي لك بالحلِّ المناسب لنزوعك ، فعليك أنْ تزرع مثلها ، فتكون مِلْكاً لك أو على الأقل تستأذن صاحبها . كذلك الحال فيمن يتسمّع لكلام الله وقرآنه يدرك القرآن بسمعه فينشأ عنه حلاوة ومواجيد في نفسه ، وهذا هو الوجدان الذي ينشأ عنه انفعال نُزوعي ، فلا يجد إلا أنْ يخر ساجداً لله تعالى . والنزوع هنا لم يُكنْ نزوعاً ظاهرياً بل وأيضاً داخلياً ، ففاضت أعينهم بالدمع { سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] . وقد عُولج هذا المعنى في عِدّة مواضع أُخَر ، كما في قوله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [ الإسراء : 107 ] . ومعنى : للأذقان : مبالغة في الخضوع والخشوع واستيفاء السجود لأن السجود يكون أولاً على الجبهة ثم الأنف لكن على الأذقان ، فهذا سجود على حَقٍّ ، وليس كنقْر الديكَة كما يقولون . إذن : فأهل الكتاب كانوا على علم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه سيأتي بالقرآن على فَتْرة من الرسل ، وها هم الآن يسمعون القرآن لذلك يقولون : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] . ومن النزوع الانفعالي أيضاً قوله تعالى عن أهل الكتاب : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ … } [ المائدة : 83 ] . وقوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ … } [ الزمر : 23 ] . فلماذا يُؤثِّر الانفعال بالقرآن في كُلِّ هذه الحواس والأعضاء من جسم الإنسان ؟ قالوا : لأن الذي خلق التكوين الإنساني هو الذي يتكلم ، والخالق سبحانه حينما يتكلم وحينما تفهم عنه وتعي ، فإنه سبحانه لا يخاطب عقلك فقط ، بل يخاطب كل ذرة من ذَرّات تكوينك لذلك تخِرُّ الأعضاء ساجدة ، وتدمع العيون ، وتقشعر الجلود ، وتلين القلوب ، كيف لا والمتكلم هو الله ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ … } .