Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 59-59)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ … } [ مريم : 59 ] أي : أن المسائل لم تستمر على ما هي عليه من الكلام السابق ذِكْره ، بل خَلفَ هؤلاء القوم خَلْفٌ والخَلْف : هم القوم الذين يخلُفون الإنسان : أي : يأتون بعده أو من ورائهم . وهناك فَرْق بين خَلْف وخَلَف : الأولى : بسكون اللام ويُراد بها الأشرار من عَقِب الإنسان وأولاده ، والأخرى : بفتح اللام ويُراد بها الأخيار . لذلك ، فالشاعر حينما أراد أنْ يتحسَّر على أهل الخير الذين مَضَوْا قال : @ ذَهَبَ الذِينَ يُعاشُ فِي أكنَافِهمْ وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجْرَبِ @@ فماذا تنتظر من هؤلاء الأشرار ؟ لا بُدّ أنْ يأتي بعدهم صفات سوء { أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ … } [ مريم : 59 ] إذن : هم خَلْف فاسد ، فأول ما أضاعوا أضاعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وأَوْلَى أركانه بالأداء . صحيح أن الإسلام بُني على عِدّة أركان ، لكن بعض هذه الأركان قد يسقط عن المسلم ، ولا يُطْلب منه كالزكاة والحج والصيام ، فيبقى ركنان أساسيان لا يسقطان عن المسلم بحال من الأحوال ، هما : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة . وسُئِلْنَا مرة من بعض إخواننا في الجزائر : لماذا نقول لمن يؤدي فريضة الحج : الحاج فلان ، ولا نقول للمصلي : المصلي فلان ، أو المزكِّي فلان ، أو الصائم فلان ؟ فقلت للسائل : لأن بالحج تتم نعمة الله على العبد ، وحين نقول : الحاج فلان . فهذا إشعار وإعلام أن الله أتمَّ له النعمة ، واستوفى كل أركان الإسلام ، فمعنى أنه أدَّى فريضة الحج أنه مستطيع مالاً وصحة ، وما دام عنده مال فهو يُزكِّي ، وما دام عنده صحة فهو يصوم ، وهو بالطبع يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤدي الصلاة ، وهكذا تمَّتْ له بالحج جميع أركان الإسلام . ثم يقول تعالى : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] هذه العبارة أخذها المتمحّكون الذين يريدون أنْ يدخلوا على القرآن بنقد ، فقالوا : الغَيُّ هو الشر والضلال والعقائد الفاسدة ، وهذه حدثتْ منهم بالفعل في الدنيا فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فكيف يقول : فسوف يلقوْنه في المستقبل ؟ لكن المراد بالغيّ هنا أي : جزاء الغي وعاقبته . كما لو قُلْت : أمْطرتْ السماء نباتاً ، فالسماء لم تُمطر النبات ، وإنما الماء الذي يُخرِج النبات ، كذلك غيّهم وفسادهم في الدنيا هو الذي جَرَّ عليهم العذاب في الآخرة . إذن : المعنى : فسوفَ يلقْونَ عذاباً وهلاكاً في الآخرة . ومع ذلك ، فالحق - تبارك وتعالى - لرحمته بخَلْقه شرع لهم التوبة ، وفتح لهم بابها ، ويفرح بهم إنْ تابوا لذلك فالذين اتصفُوا بهذه الصفات السيئة فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات لا ييأسون من رحمة الله ، ما دام بابُ التوبة مفتوحاً . وفَتْح باب التوبة أمام العاصين رحمة يرحم الله بها المجتمع كله من أصحاب الشهوات والانحرافات ، وإلاَّ لو أغلقنا الباب في وجوههم لَشقِيَ بهم المجتمع ، حيث سيتمادَوْن في باطلهم وغَيِّهم ، فليس أمامهم ما يستقيمون من أجله . والتوبة تكون من العبد ، وتكون من الرب تبارك وتعالى ، فتشريع التوبة وقبولها من الله وإحداث التوبة من العبد لذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ … } [ التوبة : 118 ] أي : شرعها لهم ليتوبوا فيقبل توبتهم ، فهي من الله أولاً وأخيراً لذلك يأتي هذا الاستثناء . { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً … } .