Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 8-8)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما سمع زكريا عليه السلام البشارة من ربه ، واطمأن إلى حصولها أغراه ذلك في أنْ يُوغل في معرفة الوسيلة ، وكيف سيتم ذلك ، وتتحقق هذه البشارة حالَ كوْنه قد بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر ؟ لكن ماذا يقصد زكريا من سؤاله ، وهو يعلم تماماً أن الله تعالى عالم بحاله وحال زوجه ؟ الواقع أن زكريا عليه السلام لا يستنكر حدوث هذه البشرى ، ولا يستدرك على الله ، وحاشاه أنْ يقصد ذلك ، وإنما أطمعته البُشْرى في أنْ يعرف الكيفية ، كما حدث في قصة موسى - عليه السلام - حينما كلَّمه ربه واختاره ، وأفرده بهذه الميزة فأغراه الكلام في أنْ يطلب الرؤيا ، فقال : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ … } [ الأعراف : 143 ] . وكما حدث في قصة - إبراهيم عليه السلام - لما قال لربه : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ … } [ البقرة : 260 ] وأبو الأنبياء لا يشكّ في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، ولكنه يريد أنْ يعرف هذه الطريقة العجيبة ، فالكلام ليس في الحقيقة وجوداً وعدماً ، إنما في كيفية وجود الحقيقة ، والكلام في الكيفية لا دخْلَ له بالوجود . فأخبره الحق سبحانه أن هذه المسألة لا تُقال إنما تُباشَر عملياً ، فأمره بما نعلم من هذه القصة : وهو أن يحضر أربعة من الطير بنفسه ، ثم يضمهنّ إليه ليتأكد بنفسه من حقيقتها ، ثم أمره أنْ يُقطِّعهن أجزاء ، ثم يُفرِّق هذه الأجزاء على قمم الجبال ، ثم بعد ذلك ترك له الخالق سبحانه أنْ يدْعُوَهُن بنفسه ، وأن يصدر الأمر منه فتتجمع هذه القطع المبعثرة وتدبّ فيها الحياة من جديد ، وهذا من مظاهر عظمته سبحانه وتعالى أنه لم يفعل ، بل جعل مَنْ لا يستطيع ذلك يفعله . ويقدر عليه . فإنْ كان البشر يُعَدُّون أثر قدرتهم إلى الضعفاء ، فمَنْ لا يقدر على حَمْل شيء يأتي بمَنْ يحمله له ، ومَنْ يعجز عن عمل شيء يأتي بمَنْ يقوم به ، ويظل هو ضعيفاً لا يقدر على شيء ، أما الحق سبحانه وتعالى فيُعدِّي قوته بنفسه إلى الضعيف فيصير قوياً قادراً على الفعل . فقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ … } [ مريم : 8 ] ؟ سؤال عن الكيفية ، كما أن إبراهيم عليه السلام لما قال له ربه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن … } [ البقرة : 260 ] ؟ أي : بقدرتي على إحياء الموتى ، قال بَلَى أي : نعم أومن { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي … } [ البقرة : 260 ] أي : الكيفية التي يتم بها الإحياء . أو : أن زكريا عليه السلام بقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ … } [ مريم : 8 ] يريد أن يُوثِّق هذه البشرى ويُسجِّلها ، كما تَعِد ولدك بأنْ تشتري له هدية فيُلِحّ عليك في هذه المسألة ليؤكد وَعْدك له ، ويستلذ بأنه وَعْد مُحقَّق لا شكَّ فيه ، ثم يذكر زكريا حيثيات تعجُّبه من هذا الأمر فيقول : { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] . عتياً : من عَتَا يعني طغى وتجبر وأفسد كثيراً ، والعُتُو : الكفر ، والعَتيّ : هو القوي الذي لا يُغالب لذلك وصف الكِبَر الذي هو رمز للضعف بأنه عَتّى لأن ضعف الشيب والشيخوخة ضَعْف لا يقدر أحد على مقاومته ، أو دفعه أبداً ، مهما احتال عليه بالأدوية والعقاقير والفيتامينات . ويبدو أن مسألة الولد هذه كانت تشغل زكريا عليه السلام وتُلِح عليه لأنه دعا الله كثيراً أنْ يرزقه الولد ، ففي موضع آخر يقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } [ الأنبياء : 89 ] . فزكريا عليه السلام يريد الولد الذي يَرِثه وهو موروث لأن الله تعالى خير الوارثين . لكن يأتي الرد : { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ … } [ الأنبياء : 90 ] ونلاحظ أنه تعالى قبل أن يقول : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ … } [ الأنبياء : 90 ] التي ستنجب هذا الولد ، قال : { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ … } [ الأنبياء : 90 ] فصلاح الزوجَة ليس شرطاً في تحقُّق هذه البشرى وحدوث هذه الهبة . وهنا مظهر من مظاهر طلاقة القدرة الإلهية التي لا يُعجِزها شيء ، فهو سبحانه قادر على إصلاح هذه الزوجة العاقر ، فالصنعة الإلهية لا تقف عند حَدٍّ ، كما لو تعطَّل عندك أحد الأجهزة مثلاً فذهبتَ به إلى الكهربائي لإصلاحه فوجد التلفَ به كبيراً ، فينصحك بترْكه وشراء آخر جديد ، فلا حيلةَ في إصلاحه . لذلك أصلح الله تعالى لزكريا زوجه حتى لا نظنَّ أن يحيى جاء بطريقة أخرى ، والزوجة ما تزال على حالها . ثم يقول الحق : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ … } .