Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 96-96)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وُداً : مودة ومحبة تقوم على الإيمان ، وتقود إلى شدة التعلّق ، وقد جعل الحق - تبارك وتعالى - في كَوْنه أسباباً لهذه المحبة والمودة ، كأنْ ترى إنساناً يُحبك ويتودّد إليك ، فساعةَ تراه مُقبلاً عليك تقوم له وتبشُّ في وجهه ، وتُفسِح له في المجلس ، ثم تسأل عنه إنْ غاب ، وتعوده إنْ مرض ، وتشاركه الأفراح وتواسيه في الأحزان وتؤازره عند الشدائد ، فهذه المودة ناشئة عن حُبٍّ ومودة سابقة . وقد تنشأ المودة بسبب القرابة أو المصالح المتبادلة أو الصداقة ، فهذه أسباب المودة في الدنيا بين الخَلْق جميعاً مؤمنهم وكافرهم ، أمّا هنا : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] . أي : بدون سبب من أسباب المودة هذه ، مودة بدون قرابة ، وبدون مصالح مشتركة أو صداقة ، وهذه المودة بين الذين آمنوا ، كأنْ ترى شخصاً لأول مرة فتشعر نحوه بارتياح كأنك تعرفه ، وتقول له : إني أحبك لله . هذه محبة جعلها الله بين المؤمنين ، فضلاً منه سبحانه وتكرُّماً ، لا بسبب من أسباب المودة المعروفة . لذلك قال هرم بن حَيَّان - رحمه الله - : إن الحق تبارك وتعالى حين يرى عبده المؤمن قد أقبل عليه بقلبه وأسكنه فيه ، وأبعد عن قلبه الأغيار ، وسلَّم قلبه وهو أسمى ما يملك من مستودعات العقائد وينبوع الصالحات وقدَّمه لربه إلا فتح له قلوب المؤمنين جميعاً . كما جاء في الحديث القدسي : " ما أقبل عليَّ عبد بقلبه إلا أقبلتُ عليه بقلوب المؤمنين جميعاً " أي : بالمودة والرحمة دون أسباب . وفي الحديث القدسي : " إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء : إنني أحببتُ فلاناً فأحِبُّوه ، وينادي جبريل في الأرض : إن الله أحبَّ فلاناً فأحبوه . ويوضع له القبول في الأرض " . فيحبه كل مَنْ رآه عطية من الله وفضلاً ، دون سبب من أسباب المودة ، وإنْ كنتَ قد تبرعتَ لله تعالى بما تملك وهو قلبك مستودع العقائد وينبوع الصالحات كلها ، فإنه تعالى وهب لك ما يملك من قلوب الناس جميعاً ، فهي في يده تعالى يُوجِّهها كيف يشاء . وقد علَّمنا ربنا - تبارك وتعالى - في قوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ … } [ النساء : 86 ] أن نرد الجميل بأحسن منه ، فإنْ لم نقدر على الأحسن فلا أقلَّ من الرد بالمثل ، فإنْ كان هذا عطاء العبد ، فما بالك بعطاء الرب ؟ ومن ذلك ما جاء في الحديث الشريف : " من يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " . والعَوْن يقتضي مُعِيناً ومُعَاناً ، ولا بُدّ أن يكون المعين أقوى من المعان ، فيفيض عليه من فضل ما عنده : صحة ، أو قدرة ، أو غنىً ، أو علماً . وإعانةُ العبد لأخيه محدودة بقدراته وإمكاناته ، أمّا معونة الله لعبده فغير محدودة لأنها تناسب قدرة وإمكانات الحق تبارك وتعالى . وهكذا عوَّدنا ربنا - تبارك وتعالى - حين نُضحِّي بالقليل أنْ يعطينا الكثير وبلا حدود ، فضلاً من الله وكرماً . ألم تَرَ أن الحسنة عنده تعالى بعشر أمثالها ، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف ؟ أليست هذه تجارة مع الله رابحة ، كما قال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] . وقال عنها : { تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد منا المحبة المتبادلة التي تربط بين قلوبنا وتُؤلّف بيننا ، ثم يمنحنا سبحانه الثمن . إذن : العملية الإيمانية لا تظن أنها إيثار ، بل الإيمان أثره ، وأنت حين تتصدق بكذا إنما تأمل ما عند الله من مضاعفة الأجر ، فالإيمان - إذن - أنانية عالية . والحق - سبحانه وتعالى - يريد منا أنْ نعودَ على غيرنا بفضل ما نملك ، كما جاء في الحديث : " مَنْ كان عنده فضل مال فليعُدْ به على مَنْ لا مالَ له … " . واعلم أن الله سيُعوِّضك خيراً مما أعطيْتَ . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - : هَبْ أن عندك ولدين ، أعطيتَ لكل منهما مصروفه ، فالأول اشترى به حلوى أكل منها ، وأعطى رفاقه ، والآخر بدّد مصروفه فيما لا يُجدي من ألعاب أو خلافه ، فأيهما تعطي بعد ذلك ؟ كذلك الحق سبحانه يعاملنا هذه المعاملة . ويقول الحق سبحانه : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ … } .