Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 97-97)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الفاء هنا تفيد : ترتيب شيء على شيء فابحث في الجملة بعدها عن هذا الترتيب ، فالمعنى : بشِّر المتقين ، وأنذر القوم اللُّد لأننا يسرنا لك القرآن . ويسَّرنا القرآن : أي : طوعناه لك حِفْظاً وأداءً وإلقاء معانٍ ، فأنت تُوظِّفه في المهمة التي نزل من أجلها . وتيسير القرآن ورد في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في سورة القمر : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 ] . والمتأمل في تيسير القرآن يجد العجائب في أسلوبه ، فترى الآية تأتي في سورة بنص ، وتأتي في نفس السياق في سورة أخرى بنص آخر ، فالمسألة - إذن - ليست أكلاشيه ثابت ، وليست عملية ميكانيكية صماء ، إنه كلام رب . خُذْ مثلاً قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ المدثر : 54 - 55 ] . وفي آية آخرى : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان : 29 ] . مرة يقول : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ … } [ الإنسان : 29 ] ومرة يقول : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } [ عبس : 11 ] . ونقف هنا أمام ملحظ دقيق في سورة الرحمن حيث يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ثم يأتي الحديث عنهما : فيهما كذا ، فيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى قاصرات الطرف فيقول : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ … } [ الرحمن : 56 ] . وكذلك في : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] فيهما كذا وفيهما كذا إلى أنْ يصلَ إلى الحور العين فيقول : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] . ولك أنْ تتساءل : الحديث هنا عن الجنتين ، فلماذا عدل السياق عن فيهما إلى فيهن في هذه النعمة بالذات ؟ قالوا : لأن نعيم الجنة مشترك ، يصح أنْ يشترك فيه الجميع إلا في نعمة الحور العين ، فلها خصوصيتها ، فكأن الحق تبارك وتعالى يحترم مشاعر الغَيْرة عند الرجل ، ففي هذه المسألة يكون لكل منا جنته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد . لذلك " لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة رأى فيها قصراً فابتعد عنه ، فلما سُئِل عن ذلك صلى الله عليه وسلم قال : " إنه لعمر ، وأنا أعرف غَيْرة عمر " . فإلى هذه الدرجة تكون غيرة المؤمن ، وإلى هذه الدرجة تكون دِقَّة التعبير في القرآن الكريم . ولولا أن الله تعالى أنزل القرآن ويسَّره لَمَا حفظه أحد فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآيات ، وحِين يسري عنه يمليها على الصحابة ، ويظل يقرؤها كما هي ، ولولا أن الله قال له : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] ما تيسّر له ذلك . ونحن في حفْظنا لكتاب الله تعالى نجد العجائب أيضاً ، فالصبي في سنِّ السابعة يستطيع حفْظ القرآن وتجويده ، فإنْ غفل عنه بعد ذلك تَفلَّتَ منه ، على خلاف ما لو حفظ نصاً من النصوص في هذه السن يظل عالقاً بذهنه . إذن : مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة ، بل معونة حافظ ، فإن كنت على وُدٍّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك ، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك ، كما جاء في الحديث الشريف : " تعاهدوا القرآن ، فو الذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ تفصّياً من الإبل في عُقَلها " . ذلك لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق ، إنما حروف القرآن ملائكة تُصفّ ، فتكون كلمة ، وتكون آية ، فإنْ وددتَ الحرف ، وودتَ الكلمة والآية ، ودَّتْك الملائكة ، وتراصتْ عند قراءتك . ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إنْ أعملتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء ، فإنْ أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك . وتلحظ هنا أن القرآن لم يأْتِ باللفظ الصريح ، إنما جاء بضمير الغيبة في { يَسَّرْنَاهُ … } [ مريم : 97 ] لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى . وقوله : { بِلِسَانِكَ } [ مريم : 97 ] أي : بلغتك ، فجعلناه قرآنا عربياً في أمة عربية ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة ، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ … } [ فصلت : 44 ] . وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] . والإنذار : التحذير من شَرٍّ سيقع في المستقبل ، واللَّدَد : عُنْف الخصومة ، وشراسة العداوة ، نقول : فلان عنده لَدَد أي : يبالغ في الخصومة ، ولا يخضع للحجة والإقناع ، ومهما حاولتَ معه يُصِرُّ على خصومته . ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ … } .