Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 103-103)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة … لقد بَيَّنَ لهم أن السحر كفر ، وأن من يقوم به يبعث كافراً يوم القيامة ويخلد في النار … وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم امتيازاً في الضرر والإيذاء … لكان ذلك خيراً لهم عند الله تبارك وتعالى … لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال الله سبحانه عنهما : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [ البقرة : 102 ] . إذن فممارسة السحر كفر . فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر ، واتقوا الله لكان ذلك ثواباً لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة … ولكن ما هي المثوبة ؟ هي الثواب على العمل الصالح … يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ … وهي مشتقة من ثاب أي رجع … ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب … لأن الإمام يقول الله أكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين لا يصلهم صوت الإمام … وهذا اسمه التثويب … أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام … وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع … لأن الإنسان عندما يعمل صالحاً يرجع عليه عمله الصالح بالخير … فلا تعتقد أن العمل الصالح يخرج منك ولا يعود … ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير . وإذا نظرنا إلى دقة التعبير القرآني : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [ البقرة : 103 ] . نجد أن كلمة مثوبة مأخوذة من نفس معنى كلمة ثوب وجمعه ثياب … وكان الناس قديماً يأخذون أصواف الأغنام ليصنعوا منها ملابسهم … فيأتي الرجل بما عنده من غنم ويجز صوفها ثم يعطيه لآخر ليغزله وينسجه ثوباً ويعيده إلى صاحبه … فكأن ما أرسله من الصوف رد إليه كثوب … ولذلك سميت مثوبة لأن الخير يعود إليك لتنتفع به نفعاً عالياً … وكذلك الثواب عن العمل الصالح يرتد إليك بالنفع العالي . إذن فكلمة ثوب جاء منها الثواب ، والله سبحانه وتعالى علمنا أن الثوب لستر العورة … والعمل الصالح يستر الأمراض المعنوية والنفسية في الإنسان … وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ … } [ الأعراف : 26 ] . فكأن هناك لباسين أحدهما لستر العورة … والثاني لستر الإنسان من العذاب … ولباس التقوى خير من لباس ستر العورة … قوله تعالى : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [ البقرة : 103 ] … انظر إلى المثوبة التي تأتي من عند الله … إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلاً مزركشاً وله ألوان مبهجة . . إذا كان هذا ما يصنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك من عند الله . إنه قمة الجمال . فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه فيكون الرد عالياً وعالياً جداً ، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات . على أننا لابد أن نتنبه إلى قول الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا } [ البقرة : 103 ] قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية … ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل … كيف يقول الله تبارك وتعالى : " اتقوا الله " … ويقول جل جلاله : " اتقوا النار " … نقول إن معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية : " واتقوا النار " … أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية … لأن النار من متعلقات صفات الجلال … لذلك فإن قوله : " اتقوا الله " … تساوي : " اتقوا النار " … والحق تبارك وتعالى حينما قال : " اتقوا " أطلقها عامة … والحذف هنا المراد به التعميم … والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلى الكفر … واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم … لذلك قال جل جلاله : { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [ البقرة : 103 ] … وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلى الذهن كلمة شر … لأن الخير يقابله الشر … ولكن في بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر . ولكن يقابلها خير أقل . وكلمة خير هي الوحيدة في اللغة العربية التي يساوي الاسم فيها أفعل التفضيل … فأنت تقول هذا فاضل وهذا مفضول عليه … كلمة خير اسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا … أي واحد منهما يعطي أكثر من الآخر … وكلمة خير إذا لم يأت مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر … فإذا قلت فلان خير من فلان … فكلاهما اشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة … والخير هو ما يأتي لك بالنفع … ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس … واحد ينظر إلى النفع العاجل وآخر ينظر إلى النفع الآجل … وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيراً . وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى الأذهان فلنقل إن هناك أخوين أحدهما يستيقظ مبكراً ليذهب إلى مدرسته والثاني ينام حتى الضحى ، ويخرج من البيت ليجلس على المقهى … الأول يحب الخير لنفسه والثاني يحب الخير لنفسه والخلاف في تقييم الخير … الكسول يحب الخير العاجل فيعطي نفسه حظها من النوم والترفيه وعدم العمل … والمجتهد يحب الخير الآجل لنفسه لذلك يتعب ويشقى سنوات الدراسة حتى يرتاح بعد ذلك ويحقق مستقبلاً مرموقاً . الفلاح الذي يزرع ويذهب إلى حقله في الصباح الباكر ويروي ويبذر الحب ويشقى ، يأتيه في آخر العام محصول وافر وخير كثير … والفلاح الذي يجلس على المقهى طول النهار أعطى نفسه خير الراحة ، ولكن ساعة الحصاد يحصد الندم . إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف … فمنهم من يريد متعة اليوم ، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد … والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير … قد يكون الخير متعباً للجسد والنفس … ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد . إذن فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع … لماذا ؟ لأن الخير هو ما ليس بعده بعد … فأنت تولد ثم تكبر ثم تتخرج في الجامعة … ثم تصبح في أعلى المناصب ثم تموت ثم تبعث ثم تدخل الجنة … وبعدها لا شيء إلا الخلود في النعيم . قوله تعالى : { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 103 ] … الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 103 ] … نقول إن العلم الذي لا يخضع حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئاً … لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم القيامة وليته لم يعلمه … واقرأ قول الشاعر : @ رُزِقُوا وما رُزِقٌوا سَمَاحَ يد فكأنهم رُزِقُوا وما رُزِقُوا خُلِقُوا وما خُلِقُوا لكرُمَةٍ فكأنهم خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا @@ فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنتفع به … والله سبحانه وتعالى يقول : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الروم : 6 ] . { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الروم : 7 ] وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي … وأثبت لهم العلم الدنيوي الظاهر … وقوله جل جلاله : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الجمعة : 5 ] . أي أنهم حملوا التوراة علماً ولكنهم لم يحملوها منهجاً وعملاً … وهؤلاء السحرة علموا أَنَّ مَنْ يمارس السحر يكفر … ومع ذلك لم يعملوا بما علموا .