Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 126-126)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] … وما دام الله قد جعله أمناً فما هي جدوى دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلداً آمنا … نقول إذا رأيت طلباً لموجود فاعلم أن القصد منه هو دوام بقاء ذلك الموجود … فكأن إبراهيم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن في البيت … ذلك لأنك عندما تقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 136 ] . هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا … كيف ؟ نقول إن الله سبحانه يأمرهم أن يستمروا ويداوموا على الإيمان … ولذلك فإن كل مطلوب لموجود هو طلبٌ لاستمرار هذا الموجود . وقول إبراهيم : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً … } [ البقرة : 126 ] … أي يا رب إذا كنت قد جعلت هذا البيت آمناً من قبل فَأَمِّنْه حتى قيام الساعة … ليكون كل من يدخل إليه آمناً لأنه موجود في واد غير ذي زرع … وكانت الناس في الماضي تخاف أن تذهب إليه لعدم وجود الأمان في الطريق … أو آمنا أي : أن يديم الله على كل من يدخله نعمة الإيمان . وقوله تعالى : { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] تكررت في آية أخرى تقول : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً … } [ إبراهيم : 35 ] … فمرة جاء بها نكرة ومرة جاء بها معرفة … نقول إن إبراهيم حين قال : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً … } [ إبراهيم : 35 ] … طلب من الله شيئين … أن يجعل هذا المكان بلداً وأن يجعله آمناً . ما معنى أن يجعله بلداً ؟ هناك أسماء تؤخذ من المحسات … فكلمة غصب تعني سلخ الجلد عن الشاة وكأن من يأخذ شيئاً من إنسان غصباً كأنه يسلخه منه بينما هو متمسك به . كلمة بلد حين تسمعها تنصرف إلى المدينة … والبلد هو البقة تنشأ في الجلد فتميزه عن باقي الجلد كأن تكون هناك بقعة بيضاء في الوجه أو الذراعين فتكون البقعة التي ظهرت مميزة ببياض اللون … والمكان إذا لم يكن فيه مساكن ومبان فيكون مستوياً بالأرض لا تستطيع أن تميزه بسهولة … فإذا أقمت فيه مباني جعلت فيه علامة تميزه عن باقي الأرض المحيطة به . وقوله تعالى : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ } [ البقرة : 126 ] … هذه من مستلزمات الأمن لأنه ما دام هناك رزق وثمرات تكون مقومات الحياة موجودة ، فيبقى الناس في هذا البلد … ولكن إبراهيم قال : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ البقرة : 126 ] فكأنه طلب الرزق للمؤمنين وحدهم . . لماذا ؟ لأنه حينما قال له الله : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً … } [ البقرة : 124 ] . قال إبراهيم : { وَمِن ذُرِّيَّتِي … } [ البقرة : 124 ] . قال الله سبحانه : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . فخشي إبراهيم وهو يطلب لمن سيقيمون في مكة أن تكون استجابة الله سبحانه كالاستجابة السابقة … كأن يقال له لا ينال رزق الله الظالمون . فاستدرك إبراهيم وقال : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ البقرة : 126 ] … ولكن الله سبحانه أراد أن يلفت إبراهيم إلى أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية … فإمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إِلاَّ المؤمنُ ، أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر لأن الله هو الذي استدعانا جميعاً إلى الحياة وكفل لنا جميعاً رزقنا … وكأن الحق سبحانه حين قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] … كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تُعْطى إلا للمؤمن ، ولكن الرزق يُعْطى للمؤمن والكافر … لذلك قال الله سبحانه : { وَمَن كَفَرَ } [ البقرة : 126 ] … وفي هذا تصحيح مفاهيم بالنسبة لإبراهيم ليعرف أن كل من استدعاه الله تعالى للحياة له رزقه مؤمناً كان أو كافراً . والخير في الدنيا على الشيوع … فما دام الله قد استدعاك فإنه ضمن لك رزقك . إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط ، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم ، وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر … ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] … التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره . وقوله تعالى : { فَأُمَتِّعُهُ } [ البقرة : 126 ] دليل على دوام متعته ، أي له المتعة في الدنيا . ولكل نعمة متعة ، فالطعام له متعة ، والشراب له متعة ، والجنس له متعة … إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة … ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل … لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعدّدت ألوانها فهي قليلة . واقرأ قوله تعالى : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ … } [ البقرة : 126 ] … ومعنى أضطره أنه لا اختيار له في الآخرة ، فكأن الإنسان له اختيار في الحياة الدنيا ، يأخذ هذا ويترك هذا ولكن في الآخرة ليس له اختيار … فلا يستطيع وهو من أهل النار - مثلاً - أن يختار الجنة ، بل إن أعضاءه المسخرة لخدمته في الحياة الدنيا والتي يأمرها بالمعصية فتفعل ، فهو في الآخر لا ولاية له عليها … وهذا معنى قوله سبحانه : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . أي أن الجوارح - التي كانت تطيع الكافر في المعاصي في الدنيا - لا تطيعه يوم القيامة فاللسان الذي كان ينطق كلمة الكفر - والعياذ بالله - يأتي يوم القيامة يشهد على صاحبه … والقدم التي كانت تمشي إلى أماكن الخمر واللهو والفسوق تشهد على صاحبها ، واليد التي كانت تقتل وتسرق تشهد على صاحبها . وقوله : " أضطره " معناها أن الإنسان يفقد اختياره في الآخرة ، ثم ينتهي إلى النار وإلى العذاب الشديد مصداقاً لقوله تعالى : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] … أي أن الله سبحانه وتعالى يحذر الكافرين بأن لهم النار والعذاب في الآخرة ليس على اختيار منهم ولكن وهم مقهورون .