Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 158-158)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والصفا والمروة جبلان صغيران ، يعرفهما الذين زاروا الأماكن المقدسة ، والذين لم يذهبوا أسأل الله أن يروهما عين اليقين ، وحين يرونهما يكون هذا علم اليقين . وهذان الجبلان كانت سيدتنا هاجر أم إسماعيل قد ترددت بينهما لتطلب الماء لولدها ، بعد أن تركهما إبراهيم عليه السلام عند بيت الله الحرام . وبالله عليك ، فبماذا تفكر امرأة عندما يتركها زوجها مع رضيعها في مكان لا طعام فيه ولا ماء ؟ هنا قالت هاجر قولتها المشهورة : - إلى من تكلنا ؟ آلله أمرك بذلك ؟ فقال سيدنا إبراهيم : نعم ، فقالت : إذن لن يضيعنا ، لقد استغنت بالخالق عن المخلوق ، ولم تنطق مثل هذا القول إلا بوحي من المسبب ، وهذه أول قضية إيمانية مع ملاحظة الأرضية الإيمانية التي وجدت عليها ، حينما دعا إبراهيم عليه السلام ربه قائلاً : { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } [ إبراهيم : 37 ] . وإذا قرأت " غير ذي زرع " فاعلم أنه غير ذي ماء ، فحيث يوجد الماء يوجد الزرع ، فالماء هو الأصل الأصيل في استبقاء الحياة ، وعندما يغيب الماء عن أم ووليدها ، فماذا يكون حالهما ؟ لقد عطش ولدها وأرادت أن تبحث عن نبع ماء أو طير ينزل في مكان لتعلم أن فيه ماء ، أو ترى قافلة تسير ومعها ماء لذلك خرجت إلى أعلى مكان وتركت الوادي ، وصعدت إلى أعلى جبل الصفا فلم تجد شيئاً ، فنظرت إلى الجهة الأخرى إلى المروة ، وصعدت عليها فلم تجد شيئاً ، وظلت تتردد بين الصفا والمروة سبعة أشواط . ولنا أن نتصور حالتها ، امرأة في مثل سنها ، وفي مثل وحدتها ، وفي مثل عدم وجود ماء عندها ، ولابد أنها عطشت كما عطش وليدها ، وعندما بلغ منها الجهد ، انتهت محاولاتها ، وعادت إلى حيث يوجد الوليد . ولو أن سعيها بين الصفا والمروة أجدى ، فرأت ماء لقلنا : إن السعي وحده قد جاء لها بالماء ، لكنها هي التي قالت من قبل : " إذن لن يضيعنا " ، وهي بهذا القول قد ارتبطت بالمسبِّب لا بالسبب ، فلو أنه أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن الماء لما كان عندها حجة على صدقها في قولها : " إذن لن يضيعنا " . ويريد الحق أن ينتهي سعيها سبع مرات بلا نتيجة ، وتعود إلى وليدها فتجد الماء عند قدم الوليد . وهكذا صدقت هاجر في يقينها ، عندما وثقت أن الله لن يضيعها ، وأراد الله أن يقول لها : نعلم لن أضيعك ، وليس بسعيك ولكن بقدم طفلك الرضيع يضرب بها الأرض ، فينبع منها الماء . وضرب الوليد للأرض بقدمه سبب غير فاعل في العادة ، لكن الله أراده سبباً حتى يستبقى السببية ولو لم تؤد إلى الغرض . وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقاً أن الله لم يضيعها . وظل السعي شعيرة من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام ، استدامة لإيمان المرء بالمسبب وعدم إهماله للسبب ، وحتى يقبل الإنسان على كل عمل وهو يؤمن بالمسبب . ولذلك يجب أن نفرق بين التوكل والتواكل . إن التوكل عمل قلب وليس عمل جوارح ، والتواكل تعطيل عمل جوارح . ليس في الإسلام تواكل ، إنما الجوارح تعمل والقلوب تتوكل . هكذا كان توكل هاجر ، لقد عملت وتوكلت على الله فرزقها الله بما تريد بأهون الأسباب ، وهي ضربة قدم الوليد للأرض ، وبقيت تلك المسألة شعيرة من شعائر الحج وهي سبعة أشواط بين الصفا والمروة . وعندما غفل الناس عن عبادة الله ، ودخلت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية ، أوجدوا على جبل الصفا صنما أسموه " إسافاً " وعلى المروة صنماً أسموه " نائلة " ، وكانوا يترددون بين إساف ونائلة ، لا بين الصفا والمروة ، لقد نقلوا العبادة من خالصية التوحيد إلى شائبية الوثنية . فلما جاء الإسلام أراد الله ألاَّ يوجه المسلمين في صلاتهم إلى البيت المحرم إلا بعد أن يطهر البيت ويجعله خالصاً لله ، فلما ذهب بعض المؤمنين إلى الكعبة تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة لأن " إسافاً " و " نائلة " فوق الجبلين ، فكأنهم أرادوا أن يقطعوا كل صلتهم بعادات الجاهلية ، واستكبر إيمانهم أن يترددوا بين " إساف " و " نائلة " ، فأنزل الله قوله الحق : { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] . أي لا تتحرجوا في هذا الأمر ، لأنكم ستسعون بين الصفا والمروة لا بين إساف ونائلة كما كان يفعل المشركون الوثنيون ، إذن فالعمل هنا كان بالنية . لقد كانت نية السعي الأولى عند هاجر هي الإيمان بالله والأخذ بالأسباب ، لكن الوثنية قلبت قمة الإيمان إلى حضيض الكفر ، وكان لابد أن يستعيد المسلمون نية الإيمان الأولى عند زيارة البيت المحرم بالسعي بين الصفا والمروة ، فنحن في الإسلام نرضخ لأمر الآمر ، قال لنا : " قَبِّلوا الحجر الأسود " ، وفي الوقت نفسه أمرنا أن نرجم الحجر الذي يرمز إلى إبليس ، هكذا تكون العبرة بالنية وليس بشكل العمل ، وتكون العبرة في إطاعة أمر الله . وكأن الحق بهذه الآية يقول للمؤمنين : إن المشركين عبدوا " إسافاً " و " نائلة " ، لكن أنتم اطرحوا المسألة من بالكم ، واذهبوا إلى الصفا والمروة ، فالصفا والمروة من شعائر الله ، وليستا من شعائر الوثنية ، ولكن ضلال المشركين هو الذي خلع عليهما الوثنية في إساف وفي نائلة . لقد أراد الوثنيون بوضع " إساف " على الصفا " ونائلة " على المروة أن يأخذوا صفة التقديس للأوثان ، فلولا أن الصفا والمروة من المقدسات سابقاً لما وضعوا عليهما أحجارهم ولما جاءوا بأصنامهم ليضعوها على الكعبة ، هذا دليل على أن قداسة هذه الأماكن أسبق من أصنامهم ، لقد حموا وثنيتهم بوضع " إساف " و " نائلة " على الصفا والمروة . وبعد أن بَيَّن الحق للمؤمنين أن الصفا والمروة من شعائر الله ، ينبه على أن المكين - ساكن المكان - لا ينجس المكان ، بدليل أن الإيمان عندما كُتِبَتْ له الغلبة ، كسر الأصنام وأزالها من الكعبة وأصبح البيت طاهراً ، وعندما كان المؤمنون يتحرجون عن أن يفعلوا فعلاً من أفعال الجاهلية طمأنهم الحق سبحانه وتعالى ، وقال لهم : { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 158 ] . وكلمة " صفا " معناها الحجر الأملس ، وأصبح كذلك من كثرة الملامسين له على مر الزمان ، وقيل : إن الصفا منسوبة إلى اصطفاء آدم ، وقيل : إن المروة منسوبة إلى المرأة التي هي حواء ، لكنه كلام يقال لا نتوقف عنده كثيراً ، لأنه علم لا ينفع وجهل لا يضر ، فالمهم بالنسبة لنا أنه مكان ترددت بينه هاجر وهي تطلب الماء لابنها ، إن الحق جعل السعي بينهما من شعائر الله ، والشعائر هي معالم العبادة ، وتطلق دائماً على المعالم المكانية ، ويقال : هذا مطاف ، وهذا مسعى ، وهذا مرمى الجمرات ، وهذا المشعر الحرام . إن كلمة " المشعر " تعني المكان الذي له عبادة مخصوصة ، وبما أن الصفا والمروة مكانان ، فقد جاء وصفهما بأنهما { مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 158 ] . { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] كأن الحج والعمرة لهما شيء يجعلهما في مقام الفرضية ولهما شيء آخر يجعلهما في مقام التطوع ، فإن أدى المسلم الحج والعمرة مرة يكون قد أدى الفرض ، وهذا لا يمنع من أن تكرار الحج والعمرة هو تطوع مقبول بإذن الله ، له شكر من الله . وساعة نقول : " لا جناح عليك أن تفعل كذا " فمعنى ذلك أنك إن فعلت فلا إثم عليك ، لكن ليس خطأ في أن تفعل ، وليس فرضاً في أن تفعل ، وهذا ما جعل بعض الناس يقولون : إن السعي بين الصفا والمروة ليس ركناً من أركان الحج ، ونقول لهؤلاء : هذه آية جاءت لسبب ، وهو أنهم كانوا يتحرجون من الطواف في مكان يطوف فيه المشركون فقال لهم : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] . إن نفي الجناح لا يعني أنك إن لم تفعل يصح ، لا ، إنه سبحانه يرد على حالة كانوا يتحرجون منها ، وقوله تعالى : { يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] يستدعي منا وقفة ، إن الحاج أو المعتمر يسعى بين الصفا والمروة ، فلماذا وصف الحق هذا السعي بـ { يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] ؟ . لكي نعرف ذلك لابد أن نوضح معنى " طاف " و " جال " و " دار " . إنَّ " طاف " تعني " دار حول الشيء " ، فما هي الدورة التي بين الصفا والمروة حتى يسميها الحق طوافاً ؟ . إن الدائر حول الدائرة يبدأ من أي نقطة منها كبداية ، لتكون تلك النقطة نهاية ، فكل طواف حول دائرة تجد فيه أن كل بداية فيها تعتبر نهاية ، وكل نهاية تعتبر بداية ، وأي حركة من وإلى شيء واحد يصنع دائرة . وصحيح أن من يسعى بين الصفا والمروة لا يدور ، ولكنه سيذهب من الصفا إلى المروة ثم ينقلب عائداً إلى الصفا ، ثم منها إلى المروة ، وهكذا يصير الأمر طوافاً . ومثال آخر من حياتنا اليومية ، إن الشرطي الذي يطوف لحراسة الشوارع والمنازل بالليل ، قد يلف المدينة كلها ، ويمكن أن يلف شارعاً واحداً هو مكان حراسته ، هذا الدوران في الشارع من أوله إلى آخره عدة مرات يسمى طوافاً بينهما ، وهكذا نفهم معنى { يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] ، أي يمشي بينهما عدة مرات من بداية إلى نهاية . وهكذا نجد أن السعي بين الصفا والمروة هو جزء من شعائر الحج والعمرة . ونجد أن الفرضية في الحج والعمرة أساسية ، والتطوع بتكرار الحج والعمرة هو خير . { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] وهذا القول يقتضي أن نفهم أن الشاكر أصابته نعمة من المشكور ، فما الذي أصاب الحق هنا من تكرار الحج ؟ . إن المؤمن عندما يؤدي ما افترضه الله عليه فهو يؤدي الفرض ، لكن عندما يزيد بالتطوع حباً في النسك ذاته فهذه زيادة يشكره الله عليها ، إذن ، فالشكر من الله عز وجل يفيد أن نعمة ستجيء ، والحق سبحانه وتعالى حين يفترض على عبدا كذا من الفروض يلتزم العبد بذلك ، فإذا زاد العبد من جنس ما افترضه الله عليه ، فقد دل ذلك على حبه وعشقه للتكليف من الله ، وإذا ما أحب وعشق التكليف من الله بدون أن يطلبه الله منه ويلزمه به بل حببه إليه ، فهو يستحق أن يشكره الله عليه ، وشكر الله للعبد هو عطاء بلا نهاية . ويقول الحق من بعد ذلك : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ … } .