Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 170-170)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذه الآية تعالج قضية خطيرة في المجتمع الإسلامي ، قضية تقليد الناس لعادات آبائهم . والتقليد هو نشأة طبيعية في الإنسان ، لأن الإنسان حين يخرج للوجود مُمداً بطاقة الحياة فهذه الطاقة تريد أن تتحرك وحركتها تأتي دائماً وفق ما ترى من حركة السابق لها ، فالطفل الصغير لا يعرف أن يده تتناول أشياء إلا إذا رأى في البيئة المحيطة به إنساناً يفعل ذلك ، وحين يريد الطفل أن يتحرك ، فهو يقلد حركة الذين حوله ، ولذلك تجد الأطفال دائماً يقلدون آباءهم في معظم حركاتهم ، وحين يوجد الأطفال مع أجيال متعاقبة تمثل أعماراً مختلفة ، فإن الطفل الصغير يقلد في حركته البدائية خليطاً من حركات هذه الأجيال ، فهو يقلد جده ، ويقلد جدته ، ويقلد أباه وأمه ، وإخوته فتنشأ حركات مختلطة تمثل الأجيال كلها . ولذلك فاندماج الطفل في أسرة مكونة من آباء وأجداد ، تمثل في الإنسان طبيعة الحياة المتصلة بمنهج الحركة في الأرض وبمنهج السماء لأن الطفل حين يعيش مع أبيه فقط ، قد يجده مشغولاً في حركة الحياة التي ربما شدته عن قيم الحياة أو عن منهج السماء لكنه حين يرى أباً لأبيه هو جده قد فرغ من حركة الحياة ، واتجه إلى منهج القيم لأنه قريب عهد فيما يظن بلقاء الله ، فإن كان لا يصلي في شبابه فهو يصلي الآن ، وإن كان لا يفعل الطاعات سابقاً أصبح يفعلها الآن ، وهكذا يرى الطفل حركة الحياة الجامحة في الدنيا والتلهف عليها من أبيه ، ويجد الإقبال على القيم والعبادات من جده ، ولذلك تجده ربما عاون جده على الطاعة فساعة يسمع الطفل المؤذن يقول : " الله أكبر " ، فهو يعرف أن جده يريد أن يصلي فيذهب هو ويأتي بالسجادة ويفرشها لجده ويقف مقلداً جده ، وإن كانت بنتاً ، فنحن نجدها تقلد أمها أو جدتها وتضع الغطاء على رأسها لتصلي ، إذن ، فاندماج الأجيال يعطي الخير من الحركتين ، حركة مادية الحياة وحركة قيم منهج السماء ، ولذلك يمتن الحق علينا قائلاً : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً … } [ النحل : 72 ] . إذن ، فتقليد الأجيال اللاحقة للأجيال السابقة أمر تقتضيه طبيعة الوجود . وحين يدعو الله الناس أن يتبعوا ما ينزله على الرسل فهو ينهاهم أن يتبعوا تقليد الآباء في كل حركاتهم ، لأنه قد تكون حركة الآباء قد اختلت بالغفلة عن المنهج أو بنسيان المنهج ، لذلك يدعونا ويأمرنا سبحانه : أن ننخلع عن هذه الأشياء ونتبع ما أنزل الله ، ولا نهبط إلى مستوى الأرض ، لأن عادات ومنهج الأرض قد تتغير ، ولكن منهج السماء دائماً لا يتغير ، فاتبعوا ما أنزل الله . والناس حين يحتجون يقولون : بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا . وتلك قضية تبريرية في الوجود ، ولو كان ذلك حقاً وصدقاً ، ومطابقاً للواقع ، لما كرر الله الرسالات بعد أن علم آدم كل المنهج الذي يريد لأننا لو كنا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا . لكان أبناء آدم سيتبعون ما كان يفعله آدم ، وأبناء أبناء آدم يتبعون آباءهم ، وهكذا يظل منهج السماء موجوداً متوارثاً لا تغيير فيه . إذن فما الذي اقتضى أن يتغير منهج السماء ؟ إن هذا دليل على أن الناس قد غيروا المنهج ، ولذلك فقولهم : { نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] هي قضية مكذوبة ، لأنهم لو اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم لظل منهج الله في الأرض مضيئاً غير متأثر بغفلة الناس ولا متأثراً بانحرافات أهل الأرض عن منهج السماء . وهو تبرير يكشف أن ما وجدوا عليه آباءهم يوافق أهواءهم . وقوله الحق : { ٱتَّبِعُوا } [ البقرة : 170 ] أي اجعلوا ما أنزل عليكم من السماء متبوعاً وكونوا تابعين لهذا المنهج لا تابعين لسواه لأن ما سوى منهج السماء هو منهج من صناعة أهل الأرض ، وهو منهج غير مأمون ، وقولهم : { مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] أي ما وجدنا عليه آباءنا ، وما تفتحت عليه عيوننا فوجدناه حركة تُحتذى وتُقتدى . والحق يبين لهم أن هذا كلام خاطئ ، وكلام تبريري وأنتم غير صادقين فيه ، وعدم الصدق يتضح في أنكم لو كنتم متبعين لمنهج السماء لما تغير المنهج ، هذا أولاً ، أما ثانياً ، فأنتم في كثير من الأشياء تختلفون عن آبائكم ، فحين تكون للأبناء شخصية وذاتية فإننا نجد الأبناء حريصين على الاختلاف ، ونجد أجيالاً متفسخة ، فالأب يريد شيئاً والابن يريد شيئاً آخر ، لذلك لا يصح أن يقولوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] لأنه لو صح ذلك لما اختلف منهج الله على الأرض لكن المنهج اختلف لدخول أهواء البشر ، ومع ذلك نرى بعضاً من الخلاف في سلوك الأبناء عن الآباء ، ونقبل ذلك ونقول : هذا بحكم تغيير واختلاف الأجيال ، أي أن الأبناء أصبحت لهم ذاتية . ولذلك فالقول باتباع الأبناء للآباء كذب لا يمثل الواقع . والحق سبحانه وتعالى يرد على هذه القضية لأنها قضية تبريرية لا دليل لها من صدق ، ولا برهان لها من واقع . ويقول سبحانه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] أي أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون ولا يهتدون ؟ . إذن ، الرد جاء من ناحيتين ، من ناحية التعقل ، ومن ناحية الاهتداء ، وكل من التعقل والاهتداء منفي عن الآباء في هذه الآية ، فأنتم تتبعونهم اتباعاً بلا تفكير ، اتباعاً أعمى . والإنسان لا يطيع طاعة عمياء إلا لمن يتيقن صدق بصيرته النافذة المطلقة ، وهذه لا يمكن أن تتأتى من بشر إلى بشر ، فالطاعة المطلقة لا تصح أن تكون لشيء إلا لمنهج السماء ، وحين تكون طاعة عمياء لمن تثق ببصره الشافي الكافي الحكيم فهي طاعة مبصرة وبصيرة في آن واحد لأنك تحمي نفسك من خطأ بصرك ، وخطأ بصيرتك ، وتلتزم في التبعية بمن تعتقد أن بصره وبصيرته لا يخطئان أبداً ، عندها لا تكون طاعة عمياء . إذن : فالحق سبحانه وتعالى ينبههم إلى أنه لا يصح أن تقولوا : إنكم تتبعون ما وجدتم عليه آباءكم لأنه يجوز أن يكون آباؤكم لا يعقلون ، ويجوز أن يكونوا غير مهتدين . لو كان آباؤكم لهم عقل أو لهم اهتداء ، عند ذلك يكون اتباعكم لهم أمراً سليماً ، لا لأنكم اتبعتم آباءكم ، ولكن لأنكم اتبعتم المعقول والهدى . وهكذا نجد أن قضية التقليد هي أمر مزعوم ، لأنك لا تقلد مساويك أبداً ، ولكنك تتبع مَنْ تعتقد أنه أحكم منك ، وما دام مساوياً لك فلا يصح أن تقلده في كل حركة . بل يجب أن تعرض الحركة على ذهنك ، ولذلك فتكليف الله لعباده لم ينشأ إلا بعد اكتمال العقل بالبلوغ . فهو سبحانه لا يأخذ العقل على غرة قبل أن ينضج بل لا يكلف الله عبداً إلا إذا نضج عقله ولا يكلفه إن لم يوجد له عقلاً ، ولا يكلفه إن لم تكن قوته وراء عقله فإن كان الإنسان سليم القوة والعقل فإن تكليفه يكون تاماً ، فسبحانه لا يكلف إلا صاحب العقل الناضج الذي لديه قدرة تمكنه من تنفيذ ما اهتدى إليه عقله ، أي غير مُكره . فالذي يكلف الإنسان بمقتضى هذه الأشياء هو عالم أن العقل إن وجد ناضجاً بلا إكراه فلا بد أن يهتدي إلى قضية الحق . إن الحق سبحانه لم يكلف الإنسان إلا بعد أن تكتمل كل ملكات نفسه ، لأن آخر مَلَكَة تتكون في الإنسان هي مَلَكَة الغريزة ، أي أن يكون صالحاً للإنجاب ، وصالحاً لأن تمتد به الحياة . وقلنا من قبل : إن الثمرة التي نأكلها لا تصبح ثمرة شهية ناضجة إلا بعد أن تؤدي مهمتها الأولى فمهمتها ليست في أن يأكلها الإنسان فقط . إنما أن توجد منها بذرة صالحة لامتداد الحياة ، وعندما توجد البذرة يكون أكل الثمرة صالحاً ، كذلك الإنسان لا يكون صالحاً لامتداد الحياة إلا بعد البلوغ أو في سن البلوغ ، وسبحانه وتعالى جعل لهذه الغريزة سعاراً لأن الحياة التي ستأتي من خلالها لها تبعات أولاد ومشقات ، فلو لم يربطها الله بهذه اللذة لانصرف عنها كثير من الناس ، لكنه سبحانه يربطها باللذة حتى يوجد امتداد الحياة بدافع عنيف وقوي من الإنسان . فالحق سبحانه لا يفاجئ الإنسان بتكليف إلا بعد أن يُعِده إعداداً كاملاً ، لأنه لو كلفه قبل أن ينضج غريزياً ، وقبل أن تصبح له قدرة على استبقاء النوع ، لقال الإنسان : إن الله كلفني قبل أن يُوجد فيَّ ذلك ، عندئذ لا يكون التعاقد الإيماني صحيحاً . ولذلك يؤخر الحق تكليفه لعباده حتى يكتمل لهم نضج العقل ونضج الغريزة معاً ، وحتى يدخل الإنسان في التكليف بكل مقوماته ، وبكل غرائزه ، وانفعالاته حتى إذا تعاقد إيمانياً فإن عليه أن يلتزم بتعاقده . إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يُربِّي في الإنسان ذاتيته من فور أن يصبح صالحاً لاستبقاء النوع في غيره ، وما دامت قد أصبحت له ذاتية مكتملة ، فالحق يريد أن يُنهي عنه التبعية لغيره ، عند ذلك لا يقولن أحد : " أفعل مثل فعل أبي " . لكن هناك من قالوا : { نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] ، لماذا يتبعون آباءهم في المنهج الباطل ، ولا يتبعونهم في باقي أمور الدنيا ، وفي الملابس ، وفي الأكل ، وفي كل مناحي الحياة ؟ . إذن فلا شيء قد جعلهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم إلا لأنهم وجدوا فيه ما يوافق هواهم ، بدليل أنهم انسلخوا عن تبعيتهم لآبائهم في أشياء رأوها في سلوك الآباء وخالفوهم فيها ، وما داموا قد خالفوهم في أشياء كثيرة فلماذا يتبعونهم في الدين الزائف ؟ . إن الله يريد أن يخلص الإنسان من إسار هذا الاتباع ، ويلفت العباد . تعقلوا يا مَنْ أصبحت لكم ذاتية ، وليعلم كل منكم أنه بنضج العقل يجب أن يصل إلى الهداية إلى الخالق الواحد الأحد ، فإن كنت قد التحمت بأبيك في أول الأمر لأنه يعولك ويمدك ، فهذا الأب هو مجرد سبب أراده الله لك ، ولكن الله هو خالقك ، وهو الذي أنزل المنهج الذي يجب أن تلتحم به لتصير حياتك إلى نماء وخير . وهو سبحانه يقول : { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً … } [ لقمان : 33 ] . إن الحق سبحانه وتعالى يفصل لنا هذا الأمر بدقة ، فإذا كان الآباء لا يعقلون فماذا عن موقف الأبناء ؟ . إن على الأبناء أن يصلحوا أنفسهم بمنهج الحق . وقد وردت في سورة المائدة آية أخرى بالمعنى نفسه ولكن بخلاف في اللفظ ، فهنا في سورة البقرة يقول الحق : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ البقرة : 170 ] . وفي آية سورة المائدة يقول الحق : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] . وبين الآيتين اتفاق واختلاف ، فقوله الحق هنا : " اتبعوا ما أنزل الله " وهي تعني أن نمعن النظر وأن نطبق منهج الله . وآية سورة المائدة " تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " هذا هو الخلاف الأول . والخلاف الثاني في الآيتين هو في جوابهم على كلام الحق ، ففي هذه السورة - سورة البقرة - قالوا : " بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " وهذا القول فيه مؤاخذة لهم . لكنهم في سورة المائدة قالوا : " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " ، وهذه تعني أنهم اكتفوا بما عندهم ونفوا اتباع منهج السماء ، وهذا الموقف أقوى وأشد نفياً ، لذلك نجد أن الحق لم يخاطبهم في هذه الآية بـ " اتبعوا " بل قال لهم : " تعالوا " أي ارتفعوا من حضيض ما عندكم إلى الإيمان بمنهج السماء . وما دمتم قد قلتم : حسبنا بملء الفم فهذا يعني أنكم اكتفيتم بما أنتم عليه . وكلمة " حسبنا " فيها بحث لطيف لأن مَنْ يقول هذه الكلمة قد حَسبَ كلامه واكتفى ، وكلمة الحساب تدل على الدقة ، والحساب يفيد العدد والأرقام . فقولهم : " حَسْبُنَا " تعني أنهم حسبوا الأمر واكتفوا به ونجد كل ورود لهذه الكلمة في القرآن يفيد أنها مرة تأتي لحساب الرقم المادي ، ومرة تأتي لحساب الإدراك الظني . فالحق يقول : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] . ومعناها : هل ظن الناس أن يتركوا دون اختبار لإيمانهم ؟ . هذا حساب ليس بالرقم ، وإنما حساب بالفكر ، والحساب بالفكر يمكن أن يخطئ ، ولذلك نسميه الظن . والحق سبحانه يقول : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . إذن ، فكلمة " حساب " تأتي مرة بمعنى الشيء المحسوب والمعدود ، ومرة تأتي في المعنويات ، ونعرفها بالفعل ، فإذا قلت : حَسَبَ يَحسِب فالمعنى عَدَّ . وإذا قلت : حَسِبَ يَحسَب فهي للظن . وفيه ماضٍ وفيه مضارع ، إن كنت تريد العد الرقمي الذي لا يختلف فيه أحد تقول : " حَسَبَ بفتح السين في الماضي وبكسرها في المضارع يَحسِب " . وإن أردت بها حسبان الظن الذي يحدث فيه خلل تقول : " حَسِبَ " بالكسر ، والمضارع " يَحْسَبُ " بالفتح . وعندما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة ، فمعنى ذلك أنه شيء محسوب ، لكن إذا بولغ في المحسوب يكون حسباناً ، وكما نقول : " غفر غفراً " و " شكر شكراً " ، يمكن أن نقول : " غفر غفراناً " و " شكر شكراناً " . كذلك " حسب حسباناً " ، والحسبان هو الحساب الدقيق جداً الذي لا يخطئ أبداً . ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بكلمة " حسبان " في الأمور الدقيقة التي خلقت بقدر ونظام دقيق إن اختل فيها شيء يحدث خلل في الكون ، فيقول : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ * ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 1 - 5 ] . أي أن الكون يسير بنظام دقيق جداً لا يختل أبداً ، لأنه لو حدث أدنى خلل في أداء الشمس والقمر لوظيفتيهما فنظام الكون يفسد . لذلك لم يقل الحق : " الشمس والقمر بحساب " ، وإنما قال : " بحسبان " وبعد ذلك فيه فرق بين " الحسبان " و " المحسوب بالحسبان " والحق سبحانه وتعالى حينما يقول : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً … } [ الأنعام : 96 ] . لم يقل : بحسبان ، لأنها هي في ذاتها حساب وليست محسوبة ، أي أن حسابها آلي . وتأتي الكلمة بصورة أخرى في سورة الكهف في قوله تعالى : { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ … } [ الكهف : 40 ] . المعنى هنا شيء للعقاب على قدر الظلم تماماً ، هذه هي مادة الحساب … وقولهم : " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " في ظاهرها أبلغ من قولهم : " نتبع ما ألفينا عليه آبآءنا " لكن كل من اللفظين مناسب للسياق الذي جاء فيه فـ " اتبعوا " يناسبها " نتبع ما ألفينا " وقوله تعالى : " وإذا قيل لهم تعالوا " يناسبها قولهم : " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " ، يعني كافينا ما عندنا ولا نريد شيئاً غيره . ومن هنا نفهم لماذا جاء الحق في آية البقرة بقوله : " اتبعوا " ، وفي آية المائدة : " تعالوا " ، وجاء جوابهم في سورة البقرة : " بل نتبع " ، وفي سورة المائدة : " حسبنا " . وهناك خلاف ثالث في الآيتين : ففي آية البقرة قال : " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً " . وفي آية المائدة قال " أولو كان آباؤهم لا يعلمون " . الخلاف في " لا يعقلون " و " لا يعلمون " . وما الفرق بين " يعقلون " و " يعلمون " ؟ . إن " يعقلون " تعني ما ينشأ عن فكرهم وتدبرهم للأمور ، لكن هناك أناس لا يعرفون كيف يعقلون ، ولذلك يأخذون القضايا مسلماً بها كعلم من غيرهم الذي عقل . إذن فالذي يعلم أقل منزلة من الذي يعقل ، لأن الذي عقل هو إنسان قد استنبط ، وأما الذي علم فقد أخذ علم غيره . وعلى سبيل المثال ، فالأمي الذي أخذ حكماً من الأحكام هو قد علمه من غيره ، لكنه لم يتعقله ، إذن ، فنفي العلم عن شخص أبلغ من نفي التعقل لأن معنى " لا يعلم " أي أنه ليس لديه شيء من علم غيره أو علمه . وعندما يقول الحق سبحانه : { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } [ البقرة : 170 ] فمعنى ذلك أنه من المحتمل أن يعلموا ، لكن عندما يقول : " لا يعلمون " فمعناه أنهم لا يعقلون ولا يعلمون ، وهذا يناسب ردهم . فعندما قالوا : " بل نتبع " فكان وصفهم بـ " لا يعقلون " . وعندما قالوا : " حسبنا " وصفهم بأنهم " لا يعلمون " كالحيوانات تماماً . نخلص مما سبق أن هناك ثلاث ملحوظات على الآيتين : في الآية الأولى قال : " اتبعوا " ، وكان الرد منهم " نتبع ما ألفينا " والرد على الرد " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً " . وفي الآية الثانية قال : " تعالوا " ، وكان الرد منهم " حسبنا " ، فكان الرد عليهم " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً " . وهكذا نرى أن كلا من الآيتين منسجمة ، ولا يقولن أحد : إن آية جاءت بأسلوب ، والأخرى بأسلوب آخر ، فكل آية جاءت على أسلوبها يتطلبها فهي الأبلغ ، فكل آية في القرآن منسجمة كلماتها مع جملها ومع سياقها . وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 170 ] مبنية للمجهول ليتضمن كل قول جاء على لسان أي رسول من الله من بدء الرسالات ، فهي ليست قضية اليوم فقط إنما هي قضية قيلت من قبل ذلك . إن المعنى هو : إذا قيل لهم من أي رسول ، اتبعوا ما أنزل الله قالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . ويختم الحق الآية في سورة البقرة بقوله : " ولا يهتدون " . وكذلك كان ختام آية المائدة : " ولا يهتدون " لنعلم أن هدى السماء لا يختلف بين عقل وعلم ، فالأولى جاءت بعد قوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] والثانية جاءت في ختام قوله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ المائدة : 104 ] وذلك للدلالة على أن هدى السماء لا يختلف بين مَنْ يعقلون ومَنْ يعلمون .