Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 171-171)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصيح للبهائم ، وهو الراعي ، إذن ، فكلمة ينعق أعطتنا صورة راع يرعى بهائم . وكان هذا الصياح من الراعي ليلفت الماشية المرعية لتسير خلفه ، وهو لا يقول لها ما يريده أن تفعله ، وإنما ينبهها بالصوت إلى ما يريد ، ويسير أمامها لتسير خلفه إلى المرعى أو إلى نبع الماء ، فالنداء لفتة ودعاء فقط ، لكن ما يراد من الدعاء يصير أمراً حركياً تراه الماشية . فكأن الماشية المرعية لا تفهم من الراعي إلا النداء والدعاء ، إنما دعاء ونداء لماذا ؟ فهي لا تعرف الهدف منه ، إلا بأن يسلك الراعي أمامها بما يرشدها . وهكذا نفهم أن هناك " راعياً " ، و " ماشية " ، و " صوتاً من الراعي " وهو مجرد دعاء ونداء . مقابل هؤلاء الثلاثة في قضيتنا هو الرسول حين يدعو فيكون هو " الراعي " ويدعو من ؟ ، يدعو " الرعية " الذين هم الناس . وبماذا يدعو الرعية ؟ . أيناديها فقط لتأتيه ، أم يناديها لتأتيه ويأمرها بأشياء ؟ . إنه يأمرها باتباع منهج السماء . وهذا هو الفارق بين الراعي في الماشية والراعي في الآدميين . فعندما يأتي الرسول ويقول : " يا قوم إني لكم رسول ، وإني لكم نذير " ، فهذا هو الدعاء ، ومضمون ذلك الدعاء هو " اعبدوا الله " . " انظروا في السماوات والأرض " ، " افعلوا كذا من أوامر وانتهوا عن تلك النواهي " ، هذا ما يريده الرسول . إذن فالرسول يشترك مع الراعي في الدعاء والنداء ، وهم اشتركوا مع المَرْعِيّ في أنهم لم يفهموا إلا الدعاء والنداء فقط ، وفي الاستجابة هم { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 171 ] ، فالمدعو به لم يسمعوه ، وكأنهم اشتركوا مع الحيوان في أنهم لا يستمعون إلا للدعاء والنداء ، إنما المدعو به ومضمون النداء هم لا يعقلونه ولا يفهمونه . وبُكْم لا ينطقون بمطلوب الدعوة وهو " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " ، وليس عندهم عقل يدير حركة العيون لينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليظهر لهم وجه الحق في هذه المسألة . إذن ، فمثل الذين كفروا بالرسول كمثل الماشية مع الراعي ، فهم لا يسمعون إلا مجرد الدعاء ، كما أن الماشية تسمع الراعي ولا تعقل ، مع الفارق لأن الدواب ليس مطلوباً منها أن ترد على مَنْ يناديها . ولا تسمع غير ذلك من المدعو به لذا كان الكافرون شر الدواب . وقول الحق : " صُمٌّ " أي مصابون بالصمم وهو آفة تمنع الأذن من أداء مهمتها . و " بُكْمٌ " أي مصابون بآفة تصيب اللسان فتمنعه من أداء مهمته ، إلا أن السبب في الصمم سبب إيجابي ، لأن هناك شيئاً قد سَد منفذ السمع فلا تسمع ، وبسبب الصمم فهم بكم ، والبكم هو عجز اللسان عن الكلام ، لأن الإنسان إن لم يسمع فهو لن يتكلم . ولذلك فإن الإنسان إذا وُجد في بيئة عربية فهو يتكلم اللغة العربية ، وإذا نشأ الإنسان في بيئة إنجليزية فهو يتكلم لغة إنجليزية . وهبْ أنك قد نشأت في بيئة تتكلم العربية ثم لم تسمع كلمة من كلماتها هل تتكلم بها ؟ ، إذن : فاللسان ينطق بما تسمعه الأذن ، فإذا لم تسمع الأذن لا يتكلم اللسان . والصمم يسبق البكم ، ولذلك فالبكم هو آفة سلبية ، وتجد أن اللسان يتحرك ويُصوِّت أصواتاً لا مدلول لها ولا مفهوم . فهل نفهم من قوله تعالى عنهم : " صُمٌّ " أنهم مصابون بالصمم ؟ … لا ، إن الحق يقول : لقد جعلت الأذن لتسمع السماع المفيد فكأنها معطلة لا تسمع شيئاً . وكذلك اللسان أوجدته ليتكلم الكلام المفيد ، بحيث مَنْ لا يتكلم به كأنه أبكم ، والعقل أوجدته ليفكر به فإذا لم يفكر تفكيراً سليماً منطقياً ، فكأن صاحبه لا عقل له . فالأصم حقيقة خير من الذي يملك حاسة السمع ولا يفهم بها ، لأن الأصم له عذره ، والأبكم كذلك ، والمجنون أيضاً له عذره ، فليت هؤلاء الكفار كانوا كذلك ، لقد صموا آذانهم عن سماع الدعوة ، وهم بُكم عن النطق بما ينجيهم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهم عمي عن النظر في آيات الكون ، فلو أن عندهم بصراً لنظروا في الكون كما قال الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] . فلو أنهم نظروا في خلق السماوات والأرض لاهتدوا بفطرتهم إلى أن لهذا الوجود المتقن المحكم صانعاً قد صنعه ، لكنهم لا يعقلون ، لأن عملية العقل تنشأ بعد أن تسمع ، وبعد اكتمال الحواس ، ولذلك فالإنسان في تكوينه الأول حركي حسيّ ، يرى ويسمع ويتذوق ثم تتكون عنده من بعد ذلك القضايا العقلية . ويقول الحق بعد ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … } .