Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 195-195)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذه الآية جاءت بعد آيات القتال ، ومعناها : أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل الله . وقوله الحق : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] تقتضي منا أن نعرف أن كلمة " تهلكة " على وزن تَفْعُله ولا نظير لها في اللغة العربية إلا هذا اللفظ ، لا يوجد على وزن تَفْعُلة في اللغة العربية سوى كلمة " تهْلُكة " ، والتهلكة هي الهلاك ، والهلاك هو خروج الشيء عن حال إصلاحه بحيث لا يُدرى أين يذهب ، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج روحه . والحق يقول : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } [ الأنفال : 42 ] . فالهلاك ضد الحياة ، وعلى الإنسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي نراها ، إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها ، وحياة النبات لها قانونها ، وحياة الجماد لها قانونها ، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل " يهلك " أمام " يحيى " وهو سبحانه القائل : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . فلسنا نحن فقط الذين يهلكون ، ولا الحيوانات ، ولا النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد ، كأن الجماد يهلك مثلنا ، وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا ، وإنما حياة بقانونه هو ، فكل شيء مخلوق لمهمة يؤديها ، فهذه هي حياته . وقوله الحق : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] يكشف لنا بعضاً من روائع الأداء البياني في القرآن ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء ، وهذا أمر لا نجده في أساليب البشر فالحق في هذه الآية يقول لنا : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 195 ] أي أنفقوا في الجهاد ، كما يقول بعدها : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] لماذا ؟ لأن الإنفاق هو إخراج المال إلى الغير الذي يؤدي لك مهمة تفيد في الإعداد لسبيل الله ، كصناعة الأسلحة أو الإمدادات التموينية ، أو تجهيز مبانٍ وحصون ، هذه أوجه إنفاق المال . والحق يقول : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] . وكلمة " ألقى " تفيد أن هناك شيئاً عالياً وشيئاً أسفل منه ، فكأن الله يقول : لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وهل سيلقى الواحد منا نفسه إلى التهلكة ، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه ؟ لا ، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه ، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم ، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا ، إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب ، وعندما يراك العدو قوياً فهو يهابك ويتراجع عن قتالك . والحق سبحانه - كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل - يأمرنا أن نزن أمر القتال وزناً دقيقاً بحسم ، فلا تأخذنا الأريحية الكاذبة ولا الحمية الرعناء ، فيكون المعنى : ولا تقبلوا على القتال إلا إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون ، فحزم الإقدام قد يطلب منك أن تقيس الأمور بدقة ، فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال في بعض الأحيان ، لتنتصر من بعد ذلك ساعة يكمل الإعداد له . والمعنى الأول يجعلك تنفق في سبيل الله ولا تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال . والمعنى الثاني أي لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بلا داع أو بلا إعداد كافٍ . إن الحق يريد من المؤمنين أن يزنوا المسائل وزناً يجعلهم لا يتركون الجهاد فيهلكوا لأن خصمهم سيجترئ عليهم ، ولا يحببهم في أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الاستعداد له . وهذا هو الحزم الإيماني ، إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان . ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] الحق يقول : { وَأَحْسِنُوۤاْ } [ البقرة : 195 ] . والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن تعبد الله - أي تطيع أوامره - كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . مشكلة الناس هذه الأيام أنهم يتشبهون بـ " فإنه يراك " ، فعملوا الدوائر التليفزيونية المغلقة في المحلات الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل ، هذه فعل البشر . لكن انظر إلى تسامي الإيمان ، إنه يأمرك أنت أن ترى الله ، فلا تؤد العمل أداء شكلياً يرفع عنك العتب ، بل عليك أن تؤدي العمل بقصد الإحسان في العمل . والإحسان في كل شيء هو إتقانه إتقاناً بحيث يصنع الإنسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له ، ولو تعامل الناس على هذا الأساس لامتازت كل الصناعات ، لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك ، وغيرك يغشك ، وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى ، وعلينا إذن أن نحسن في كل شيء : مثلاً نحسن في الإنفاق ، ولن نحسن في الإنفاق إلا إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي بثمرة ما ننفق لأن الكدح ثمرته مال ، ولا إنفاق إلا بمال ، فتخرج من عائد كدحك لتصرفه في المناسب من الأمور . ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط ، فالأمر هنا عام ، ولا تعتقد أنه أمر في زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة ، إنما كل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة ، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض ، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي مَنْ يعول ، ثم يفيض لديه ما يحسن به . إذا لم يتوافر المال ، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك ، والجاه قد قوّمه الإسلام أي جعل له قيمة ، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم ، وعلى الوجيه أيضاً أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي ، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها . والوجاهة تعني أن يكون للإنسان احترام أو وزن أو تقدير ، وهذه الأشياء لها مسبقات في إحسان الشخص ، لا يأخذها بلا سبب ، إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس . فالناس في العادة لا يحترمون إلا من يكون له لون من الفضل عليهم ، فكأنه احترام مدفوع الثمن ، وليس احتراماً مجانيّاً . وقد يكون الإحسان بالعلم . أو بفضل القوة ، بإعانة الضعيف . أو بإكساب الخبرة للآخرين . أو بتفريج كربة عن مسلم . إذن وجوه الإحسان في الأشياء كثيرة ، وكلها تخدم قضية الإيمان . وعندما يرى الكافر المؤمنين وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه بالإيمان . وإذا سألنا : ما الذي زهد دنيانا المعاصرة في ديننا ؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين الله من خلال حركة المسلمين ، وهي حركة غير إسلامية في غالبيتها . صحيح أن بعضاً من عقلاء الغرب وفلاسفته لا يأخذون الدين من حركة المسلمين ، وهذا منتهى العدالة منهم لأنه ربما كان بعض المسلمين غير ملتزم بدينه ، فلا يأخذ أحد الإسلام منه لمجرد أنه مسلم . وأتباع الديانات الأخرى يعرفون أن هناك أفعالاً جرمها دينهم . وما دام هناك أفعال جرمها الدين وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع ، فأنت عندما ترى شخصاً ينتسب إلى الإسلام ويسرق ، هل تقول : إن المسلمين لصوص لا ، إن عليك أن تنظر إلى تشريعات الإسلام هل جرمت السارق أو لم تجرمه ؟ فلا يقولن أحد : انظر إلى حال المسلمين ، ولكن لننظر إلى قوانين الإسلام ، لأن الله قدر على البشر أن يقوموا بالأفعال حسنها وسيئها ، ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على العمل السيىء . والعقلاء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه ، ولا يأخذونه من سلوك الناس ، فقد يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين ، فلا تأخذ الفعل الخاطئ على أنه الإسلام وإنما خذه على أنه خارج على الإسلام . وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم الأسوة التي كان عليها أجدادنا ، وجعلت الإسلام يمتد ذلك المد الخرافي الأسطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا في الشرق ، وإلى آخرها في الغرب ، وبعد ذلك ينحسر سياسياً عن الأرض ، ولكن يظل كدين ، وبقى من الإسلام هذا النظام الذي يجذب له الناس . إن الإسلام له مناعة في خميرته الذاتية إنه يحمل مقومات بقائه وصلاحيته ، وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون به ، وليس المسلمون هم الذين يجذبون الناس للإسلام . ولذلك أقول : لو أن التمثيل السياسي للأمم الإسلامية في البلاد غير الإسلامية المتحضرة قد أخذ بمبادئ الإسلام لكان أسوة حسنة . وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها أكثر من ثلاث وستين سفارة إسلامية ، وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين ، هب أن هؤلاء كانوا أسوة إسلامية في السلوك والمعاملات في عاصمة غير إسلامية ، حينئذ يجد أهل ذلك البلد جالية إسلامية ملتزمة ولم تفتنها زخارف المدنية : لا يشربون الخمر ، ولا يراقصون ، ولا يترددون على الأماكن السيئة السمعة ، ولا تتبرج نساؤهم ، بالله ألا يلفت النظر سلوكُ هؤلاء . لكن ما يحدث - للأسف - هو أن أهل الغرب - على باطلهم - غلبوا بني الإسلام - على حقهم - وأخذوهم إلى تحللهم ، وهذا الاتباع الأعمى يجعل الغربيين يقولون : لو كان في الإسلام مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه . إذن الإحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين الإسلام . إن الحق يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب ، وذلك الأمر يكون بالنسبة للبشر ، لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة على المخلوق ، والحق سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه ، فكما أن الله أحسن كل شيء خلقه { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] يريد من عباده وقد تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط ، وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل يريد الحق منا أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه حتى نكون متخلقين بأخلاق الله ، فتشيع كلمة " الله " هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به الإنسان كل جميل في أي صنعة فيقول : " الله " . إذن تشيع كلمة " الله " نغمة في الوجود تعليقاً على كل شيء حسن ، حتى الذي لا يؤمن بذلك الإله يقول أيضاً : " الله " ، كأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب إلى الله سواء كان الله هو الذي فعل مباشرة كالأسباب والكونيات والنواميس ، أو خلق الذي فعل الحسن ، فكل الأمور تؤول إلى الله . ولو علم الذين لا يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم ، وليتهم يحرمون الوجود من كلمة " الله " ، ولكنهم يجعلون مكان " الله " كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود ، وحين يشيع القبح في الوجود يكون الإنسان في عمومه هو الخاسر . فقول الله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] تشجيع لكل من يلي عملاً أن يحسنه ليكون على أخلاق الله . وبعد ذلك يقول الحق : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ … } .