Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 197-197)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [ البقرة : 185 ] ولم يذكر شهور الحج : شوالاً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان ، لأن التشريع في رمضان خاص به فلا بد أن يعين زمنه ، لكن الحج كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام ، ويعلمون شهوره وكل شيء عنه فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به ، والشهور المعلومة هي : شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى ، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام ، ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة ، لأن بعض الشهر يدخل في الشهر . وكلمة " معلومات " تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج ، لأنها كانت معلومة عندهم . { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ } [ البقرة : 197 ] والفرض ليس من الإنسان إنما الفرض من الله الذي فرض الحج ركناً ، وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلاً ، وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك . وقوله سبحانه : { فَرَضَ } [ البقرة : 197 ] يدل على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوباً أي غير مفروض . { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } [ البقرة : 197 ] والرفث للسان ، وللعين . وللجوارح الأخرى رفث ، كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته ، ورفث اللسان في الحج أن يذكر مسألة الجماع ، ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة . فالرفث هو كل ما يتأتى مقدمة للجماع ، أو هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة ، أو بالفعل . والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج ، أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير الحج ، فكأن الله ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج ، فليس من الأدب أن يكون المسلم في بيت الله ويحدث ذلك الفسوق منه ، إنّ الفسوق محرم في كل وقت ، والحق ينبه هنا المسرف على نفسه ، وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيداً عن بيت الله فليستح أن يعصي الله في بيت الله فالذاهب إلى بيت الله يبغي تكفير الذنوب عن نفسه ، فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوباً ؟ لابد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت الله ، واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يُحاسب فيه على مجرد الإرادة . يقول الله عز وجل : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] . إذن الرفث حلال في مواضع ، لكنه يَحْرُمُ في البيت الحرام ، ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت ، وامتناعه أشد في البيت الحرام . والجدال وإن كان مباحاً في غير الحج فلا يصح أن يوجد في الحج . ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق ، ودون مرتبة العصيان ، والرسول قال : " مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " لم يقل : " ولم يجادل " إن بشرية الرسول تراعي ظروف المسلمين ، فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثاره ، فكأن عدم ذكر الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن لا يصح أن نتمادى فيها . والجدال ممكن في غير الحج بدليل : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] . إنما الحج لا جدال فيه . والجدل هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة . ثم انظر إلى تقدير الحق لظروف البشر وعواطف البشر والاعتراف بها والتقنين لأمر واقع معترف به ، فالحج يُخرج الإنسانَ من وطنه ومن مكان أهله ، ومن ماله ، ومما أَلِفَ واعتاد من حياة . وحين يخرج الإنسان هذا الخروج فقد تضيق أخلاق الناس لأنهم جميعاً يعيشون عيشة غير طبيعية فهناك مَنْ ينام في غرفة مشتركة مع ناس لا يعرفهم ، وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إلا دورة مياه واحدة ، ومن الجائز أن يرغب أحد الأفراد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر ، وحين تكون هذه المسألة موجودة لا رأي لإنسان ، ولذلك يقال : " لا رأي لحاقن " أي لا رأي لمحصور … أي لمن يريد قضاء حاجته من بول ، وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لأنها مسألة تُخِل توازن الإنسان . إذن فالحياة في الحج غير طبيعية ، وظروف الناس غير طبيعية ، لذلك يحذرنا الحق من الدخول في جدل لأنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سبباً في إساءة معاملة الآخرين ، والحق يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علاقتنا بالآخرين . وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جداً ، وإما أعداء ألداء . ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج ، وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند الله ، وليشتغل بأنس الله ، وليتحمل في جانبه كل شيء ، ويكفي أنه في بيت الله وفي ضيافته . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] . فبعد أن نهانا الحق بقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } [ البقرة : 197 ] وتلك أمور سلبية وهي أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها ، وهنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية ، أفعال الخير التي يعلمها الله . إن الله يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين ، سلب وإيجاب ، سلب ما قال عن الرفث والفسوق والجدال ، ويريد أن نوجب ونوجد فعلاً . { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 197 ] . وما هو ذلك الخير ؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهي عنها ، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحج فمطلوب منه أن يعف في كلامه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علاقته بامرأته الحلال له ، فيمتنع عنها ما دام محرماً ويُطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق ، من بر وخير . وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق والأدب واللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس ، هذا هو المقصود بقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } . وكلمة من في قوله " من خير " للابتداء ، كأن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيراً وهو سبحانه يرى أقل شيء من الخير ولذلك قال : { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 197 ] . فكأنه خير لا يراه أحد فالخير الظاهر يراه كل الناس والتعبير { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 197 ] أي الخير مهما صغر ، ومهما قل فإن الله يعلمه ، وكثير من الخيرات تكون هواجس بالنية ، ويجازي الله على الخير بالجزاء الذي يناسبه . وقول الحق : { وَتَزَوَّدُواْ } [ البقرة : 197 ] والزاد : هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره ، وكان هذا أمراً مألوفاً عند العرب قديماً لأن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام . وكل هذه الظروف تغيرت الآن ، وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك . كانت الناس قديماً تذهب إلى الحج ومعها أكفانها ، ومعها ملح طعامها ، ومعها الخيط والإبرة ، فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي الناس ، وأصبح الناس يذهبون الآن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة ، وأصبحت لا تجد غرابة في أن فلاناً جاء من الحج ومعه كذا وكذا . كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذاناً بأنه أخبر قديماً يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال : { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ … } [ القصص : 57 ] . وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله : { يُجْبَىٰ } ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب به ، فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها ، وهو رزق من عند الله ، وليس من يد الناس . وهذا تصديق لقوله تعالى : { وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ … } [ إبراهيم : 37 ] . وقوله الحق : { وَتَزَوَّدُواْ } [ البقرة : 197 ] مأخوذة - كما عرفنا - من الزيادة ، والزاد هو طعام المسافر ، ومَنْ يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلاك إقامته ، ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو الاستشراف إلى السؤال لأن الحج ذلة عبودية ، وذلة العبودية يريدها الله له وحده . فمن لا يكون عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر ، ويطلب منه أن يعطيه طعاماً ، والله لا يريد من الحاج أن يذل لأحد ، ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه ، وتظل ذلته سليمة لربه ، فلا يسأل غير ربه ، ولا يستشرف للسؤال من الخلق ، ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئاً من ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة لله وهو يوجهها للناس ، والله يريدها له خالصة . وإن لم يعط الناس السائل والمستشرف للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته ، وتتحول رحلته من قصد البر إلى الشر . وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بلا زاد ويقولون : " نحن متوكلون ، أنذهب إلى بيت الله ولا يطعمنا ؟ " . ثم تضطرهم الظروف لأن يسرقوا ، وهذا سبب وجود النهب والسرقة في الحج . إن إلحاح الجوع قد يدفع الإنسان لأن ينهب ويسرق ليسد حاجته . ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ } [ البقرة : 197 ] إنه أمر من الله بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها الإنسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن معارفه ، ويقول سبحانه : { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] ونعرف أن الزاد هو ما تَقِي به نفسك من الجوع والعطش ، وإذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية ، فما بالك بالحياة الأبدية التي لا فناء فيها ، ألا تحتاج إلى زاد أكبر ؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية . إذن فقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] يشمل زاد الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى يذكرنا بالأمور المُحَسّة وينقلنا منها إلى الأمور المعنوية ، ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية . ولذلك نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ … } [ الأعراف : 26 ] . هذا أمر حسي . ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشاً " إنه - سبحانه - لا يواري السوءة فقط ، وإنما زاد الأمر إلى الكماليات التي يتزين بها ، وهذه الكماليات هي الريش ، أي ما يتزين به الإنسان ، ثم قال الحق : { وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ … } [ الأعراف : 26 ] . أي أنعمت عليكم باللباس والريش ، ولكن هناك ما هو خير منهما وهو " لباس التقوى " . فإن كنت تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حراً وبرداً وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسي ، ولكن الأمر الأفضل وهو لباس التقوى ، لماذا ؟ لأن مفضوح الآخرة شر من مفضوح الدنيا . إذن فقوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 197 ] . يعني أن الحق يريد منك أن تتزود للرحلة زاداً يمنعك عن السؤال والاستشراف أو النهب أو الغصب ، واحذر أن يدخل فيه شيء مما حرم الله ، ولكن تزودك في دائرة : { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 197 ] أي يا أصحاب العقول ، ولا ينبه الله الناس إلى ما فيهم من عقل إلا وهو يريد منهم أن يُحَكِّمُوا عقولهم في القضية ، لأنه جل شأنه يريد منك أن تُحَكِّمَ عقلك ، فإن حَكَّمْتَ عقلك في القضية فسيكون حُكْمُ العقل في صف أمر الله . ولما كان الله - سبحانه - بسعة لطفه ورحمته - يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة أن يتعاون الناس ، أذِنَ لجماعةٍ من الحجاج أن تقوم على خدمة الآخرين تيسيراً لهم . ومن العجيب أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ الله لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم ؟ لأن تلك مصلحة ضرورية . فهب أن الناس جميعاً امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضاً فمَنْ الذي يقوم بمصالح الناس ؟ إذن لابد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج ، والله - سبحانه وتعالى - بين ذلك ووضحه بقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ … } .