Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 198-199)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [ البقرة : 198 ] . { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } [ البقرة : 198 ] أي لا إثم عليكم ولا حرج { أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] أي أن تتكسبوا في الحج وهو نسك عبادي ، والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من الله . وقديماً كانوا يقولون : فيه " حاج " ، وفيه " داجّ " ، واحدة بالحاء وواحدة بالدال ، " فالداجّ " هو الذي يذهب إلى الأراضي المقدسة للتجارة فقط ، ونقول له : لا مانع أن تذهب لتحج وتتاجر لأنك ستيسر أمراً لأننا إن منعناه فمَنْ الذي يقوم بأمر الحجيج ؟ ولماذا قال الحق : { تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] ولم يقل رزقاً ؟ . لقد أوضح الحق في الآية التي قبلها : ألاَّ تذهبوا إلاّ ومعكم زادكم . إذن أنت لا تريد زاداً بعملك هذا ، أي لا تذهب إلى الحج لتأكل من التجارة ، إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلاً من الله سبحانه وتعالى ، وهو جل شأنه يريد منك ألاَّ يكون في عملك المباح حرج فنفى الجناح عنه فأنت قد جئت ومعك الأكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول ، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة الحجيج ، لذلك أسماه " فضلاً " يعني أمراً زائداً عن الحاجة . وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل ، فكله من عند الله . إياك أن تقول : قوة أسباب ، وإياك أن تقول : ذكاء أو احتياط ، فلا شيء من ذلك كله لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله . ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب لأنه هو الخالق وهو المربي . ونحن مربوبون له ، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من الله . ثم يقول الحق بعد ذلك : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 198 ] . وأنت حين تملأ كأساً عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها ، إذن فالفائض معناه شيء افترق عن الموجود للزيادة . قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } [ البقرة : 198 ] تدل على أن الله قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلاء ، وكل من يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها . وهذا حكم من الله في الحج . وأنت إذا ما شهدت المشهد - كتبه الله للمسلمين جميعاً . إن شاء الله - سترى هذه المسألة ، فكأن إناءً قد امتلأ ، وذلك يفيض منه . ولا تدري من أين يأتي الحجيج ولا إلى أين يذهبون . ومن ينظر من يطوفون بالبيت يظن أنهم كتل بشرية ، وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم أنه لا فارق بينهم ولذلك يقال : سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل . وقال الشاعر : @ فسـالت عليه شعـاب الحي حـين دعـا أصـحـابه بـوجـوه كالـدنـانـير @@ وقال آخر : @ ولمـا قضـيـنا مـن مـنىً كـل حـاجـة ومسـّح بـالأركـان من هـو ماسح أخـذنا بـأطـراف الأحـاديـث بـينـنـا وسـالـت بأعـناق المـطي الأباطح @@ أي كأنه سيل متدفق ، هكذا تماماً تكون الإفاضة من عرفات . وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى " مزدلفة " تتعجب أين كان كل هذا الجمع ؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصاً من مجموعة ، وفي موقف الحجيج إفاضتان : إفاضة من عرفات ، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول - سبحانه - : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 199 ] . وعرفات ننطقها بمنطوقين : مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الآية ، ومرة ننطقها " عرفة " كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " وعرفات جمع ، وعرفة مفرد . هذه الكلمة أصبحت علماً على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة ، ولا تظن أنها جبل ، فإذا سمعت : " جبل عرفات " كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل المنسوب إلى عرفات . وليس عرفات في ذاتها ، ولذلك تجد أناساً كثيرين يظنون أنهم إن لم يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول الله في حجة الوداع فكأن الإنسان منهم لم يحج . نقول لهم : لا ، الوقوف يكون في الوادي ، والجبل المجاور للوادي أسميناه جبل عرفات ، فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل . وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة . وهناك فرق بين الاسم يكون وصفاً ثم يصير اسماً . وبين أن يكون عَلَماً من أول الأمر . وقلنا : إنه إذا سميت العَلَم من أول الأمر فلا ضرورة أن يكون فيه معنى اللفظ فقد تسمى واحداً شقياً بـ " سعيد " ، وتُسمى زنجية بـ " قمر " ، وهذا لا يُسمى " وصفاً " وإنما يُسمى عَلََماً إلا أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالأصل ، فيقال : أُسَمِّي ابني " سعيداً " تفاؤلاً بأن يكون " سعيداً " ، وعندما تكون بنتاً فقد تعطيها اسماً مخالفاً لحالها ، فقد تكون دميمة وتسميها " جميلة " تفاؤلاً بالاسم . هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل . والعرب عندما كانوا يسمون الأسماء كانوا يتفاءلون بها . مثلاً كانوا يسمون " صخراً " ليتفاءلوا به أمام الأعداء . ويسمون " كلباً " حتى لا يجرؤ عليه أحد . وقيل لعربي : إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيداً " و " سعداً " و " فضلاً " وتسيئون أسماء أبنائكم تسمونهم : " مُرة " ، " كلباً " ، " صخراً " قال العربي : نعم لأننا نسمي أبناءنا لأعدائنا ليكونوا في نحورهم ، ونسمي عبيدنا لنا . وكلمة " عرفة " هي الآن علم على مكان ، لكن سبب تسميتها فيه خلاف : قيل : لأن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان ، وظل كلاهما يبحث عن الآخر حتى تلاقيا في هذا المكان ، فسُمي " عرفة " . والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كلا منهما يبحث عن الآخر ، إذا كان الله عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما ؟ . لك أن تتصور حال آدم وهو مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده ، وينظر حوله فلا يجد بشراً مثله ، بالله ألا يشتاق لإنسان يؤنس وحدته ؟ . وماذا يكون حاله عندما يرى إنساناً ؟ . لا شك أنه سيقابله باشتياق شديد . من أجل هذا فرق الله بينهما وجعل كلاًّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته ، ولو ظل كل منهما بجوار الآخر فربما كان الأمر عادياً . وهكذا أراد الله لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للآخر ، فأبعدهما عن بعضهما ثم تلاقيا بعد طول بعاد ، فكان الشوق للقاء . وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة والألفة والسكن ، وهو مطلوب الحياة لزوجين . وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات : إن سيدنا آدم قالت له الملائكة وهو في ذلك المكان : اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] . فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب . أو حينما أراد الله أن يُعَلِّم إبراهيم عليه السلام ، وهو الذي دعا ربَّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان . إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه . وتلك مسألة شاقة من ثلاثة وجوه : المشقة الأولى أنها رؤيا وليست وحياً . والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد ، والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه . إنها ثلاث مشقات صعاب ، وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي الأنبياء بيسر وسهولة ، بل لابد أنه تحدّث فيها كثيراً بينه وبين نفسه ، وهل هي رؤيا أم ماذا ؟ . ومن هنا سُمي اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية . وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا الأنبياء حق عرف أنه لابد أن ينفذ ما رأى . والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة . أو أنه حين جاءت له الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر ، وكان لابد أن يدخل ليوسوس لإبراهيم . أليس هو القائل : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . فعندما تمثل الشيطان لإبراهيم رجمه بالحصى سبعاً في المرة الأولى ، ثم عاوده مرة أخرى فرجمه سبعاً ، وجاءه في الثالثة فرجمه سبعاً ، بعدها لم يأت له ثانية ، فجرى إبراهيم مخافة أن يلاحقه ، ولذلك سُمي المكان بالمزدلفة ، والمزدلف هو المسرع ، ويسمى " ذا المجاز " أي أنه اجتاز المزدلفة ، ويكون قد عرف المسألة عند عرفة . أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان ، فيقول له : عرفتَ ؟ فيرد إبراهيم : " عرفتُ " . أو أن الإنسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الأركان : هذا عرف ، وذاك عرف ، وثالث ، ورابع ، وهكذا فيكون كلنا : عرفات ، ويصبح المكان عبودية لله . اشترك فيها جميع الحجاج . { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 198 ] . والمشعر الحرام في مزدلفة : " فاذكروا الله " معناها أن الله يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة ، وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت الله الحرام ، ثم تعودون مغفوراً لكم ، وهي مسألة تستحق أن تذكروا الله بالشكر والعرفان . { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] لأن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من الله لخلقه ، والتحية يجب أن يُرَدّ عليها ، فكما هداكم اذكروه . { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [ البقرة : 198 ] لأنهم طالما حجوا كثيراً ، في الجاهلية ، فأنتم كنتم تحجون بضلال ، والآن تحجون بهدى . { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 199 ] . قوله : " ثُمَّ " تدل على أنه لابد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة لأن " ثُمَّ " تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل . إذن قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } [ البقرة : 199 ] حجة لمن قال : إنه لابد من المبيت في مزدلفة . وهذه الآية نزلت لأن قريشاً كانت ترى نفسها أهل الحرم فلا يُطالبون أبداً بما يُطالب به سائر الناس ، ولذلك لا يذهبون مع الناس إلى عرفات ، والله يريد بالحج المساواة بين الناس ، ولذلك قال النبي في حجة الوداع : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " فلابد أن ينسخ الله مسلك قريش فقال : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 199 ] يعني لا تميز لكم ولا تفرقة بين المسلمين . وبعض المفسرين يقول : إن معنى { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 199 ] المقصود به من حيث أفاض إبراهيم ، بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها الله له ، فالناس وإن كانوا جمعاً إلا أن المراد بكلمة " الناس " هو " إبراهيم " . ولا نستغرب أن يكون معنى : " الناس " هو " إبراهيم " لأن الله وصفه بأنه " أمة " . وكلمة الناس تُطلق على الإنسان الذي يجمع خصائص متعددة ولذلك قال الله عز وجل عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } [ النساء : 54 ] . لقد وصف الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس . والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] إنه إنسان واحد ومع ذلك وصفه الله بالناس ، كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس . { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 199 ] إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم لا يمكن لهم أن يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى ، فلا بد أن تفلت منهم أشياء ، وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك لأنه خالقهم ، فأمرهم - جلّت حكمته - أن يستغفروه ليكفروا عن سيئاتهم .