Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 208-208)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تبدأ الآية بنداء الذين آمنوا بالله وكأنه يقول لهم : يا مَنْ آمنتم بي استمعوا لحديثي . فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به ، وما داموا قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى مَنْ يحبه لأن الله لن يعطيه إلا ما يسعده . إذن فالتكليف من الله إسعادٌ لمن أحب ، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] ، وكلمة " في " تُفيد الظرفية ، ومعنى الظرفية أن شيئاً يحتوي شيئاً ، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول : " الماء في الكوب " ، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول : " المصلون في المسجد " . والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف ، وما دام الظرف قد أحاط بالمظروف ، إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف . ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ … } [ طه : 71 ] . إن الصلب دائماً يكون على شيء ، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب متمكناً من المصلوب . فأنت إذا أردت أن تصلب شيئاً على شيء فأنت تربطه على المصلوب عليه ، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه . ومثال ذلك ، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطاً جيداً ، ستلاحظ أن العود قد غاص في جلدك . والحق يقول : { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام ، فالمادة كلها واحدة لأن السلم ضد الحرب ، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون ، وفي سلام مع الناس . وفي سلام مع نفسك . قوله : { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ } [ البقرة : 208 ] معناه حتى يكتنفكم السلم . إن الله هو الإله الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً . فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام لأن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رُسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك . والإنسان حين يكون طائعاً يُسَرّ به كل شيء في الوجود لأن الوجود طائع ومُسَبِّح ، فساعة يجد الإنسان مُسبِّحاً مثله يُسَرّ به لأنه في سلام مع الكون . وأنت في سلام مع نفسك لأن لك إرادة ، وهذه الإرادة قَهَرَ اللهُ لها كل جوارحك ، والذي تريده من أي عضو يفعله لك ، لكن هل يرضى أي عضو عمّا تأمره به ؟ تلك مسألة أخرى ، مثلاً ، لسانك ينفعل بإرادتك ، فتقول به : " لا إله إلا الله " وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك ، وأشركوا مع الله بشراً وغير بشر يعبدونهم وقال الملحدون بألسنتهم والعياذ بالله : " لا إله في الكون " ولم يعص اللسان أحداً من هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم . وتنتهي إرادة الإنسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه سائر أعضائه : الأرجل ، والأيدي ، والعيون ، والآذان ، وكل عضو يُقر بما كان يفعل به ، لأنه لا سيطرة للإنسان على تلك الأبعاض في هذا اليوم . إنما السيطرة كلها للخالق الأعلى . { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة فالمعنى يحتمل أيضاً أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين ألا يأخذوا بعضاً من الدين ، ويتركوا البعض الآخر ، فيقول لهم : خذوا الإسلام كُله وطبقوه كاملاً لأن الإسلام يمثل بناء له أسس معلومة ، وقواعد واضحة ، فلا يحاول أحد أن يأخذ شيئاً من حكم بعيداً عن حكم آخر ، وإلا لحدث الخلل . وعلى سبيل المثال قد تجد خلافاً بين الزوج والزوجة ، وقد يؤدي الخلاف إلى معارك وطلاق ، وبعد ذلك نجد من يتهم الإسلام بأنه أعطى الرجل سيفاً مسلطاً على المرأة . ونقول لهم : ولماذا تتهمون الإسلام ؟ هل دَخَلْتَ على الزواج بمنطق الإسلام ؟ . إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق الإسلام فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة كرامتها ، ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج بغير منطق الإسلام ، فلما وقع في الأزمة راح ينادي الإسلام . هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته بمقياس الدين ؟ وهل وضع نُصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث الشريف : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " . هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها ؟ أم فضل مقياساً آخر ؟ . وعندما جاء رجل ليخطب ابنة من أبيها هل وضع الأب مقاييس الإسلام في الاعتبار عند موافقته على هذا الزواج ؟ هل فضلتم مَنْ ترضون دينه وخلُقُه ؟ أم تركتم تلك القواعد . أنت تركت قواعد الإسلام ، فلماذا تلوم الإسلام عند سوء النتائج والعواقب ؟ . إنك إن أردت أن تحاسب فلا بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس الإسلام ، ثم تصرّف بما يناسب الإسلام . فإن كنت كذلك فالإسلام يحميك من كل شيء . فالإسلام يساند القُوَى في الكون ويساند القُوَى في النفس بحيث تعيش في سلام ولا تتعاند لأن كل ذلك يقابله الحرب . والحرب إنما تنشأ من تعاند القوى ، فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك ، وتتعاند قوى البشر في حرب البشر مع البشر ، وتتعاند قواك مع قوى الكون الأخرى ، فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى . إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب ، والحرب لا تنشأ إلا إذا اختلفت الأهواء . وأهواء البشر لا يمكن أن تلتقي إلا عندما تكون محروسة بقيم مَنْ لا هوى له ، ولذلك يقول الله عز وجل : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ … } [ المؤمنون : 71 ] . لماذا ؟ . دعك من الكون الأصم حولك ، أو دعك من الكون الذي لا اختيار له في أن يفعل أو ينفعل لك فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه ، ولكن انظر إلى البشر من جنسك ، فما الذي يجعل هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره ؟ . ما الذي زاده ذلك الإنسان حتى تكون أنت تابعاً له ؟ أو يكون تابعاً لك ؟ . وفي قانون التبعية لا يمكن إلا أن يكون التابع مؤمناً بأن المتبوع أعلى منه ، ولا يمكن لبشر أن توجد عنده هذه الفوقية أبداً . لذلك لابد للبشر جميعاً أن يكونوا تبعاً لقوة آمنوا بأنها فوقهم جميعاً . فحين نؤمن ندخل في السلم ، ولا يوجد تعاند بين أي قوى وقوة أخرى لأني لست خاضعاً لك ، وأنت لست خاضعاً لي ، وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى مني ومنك ، ويُشترط في القوة التي نتبعها طائعين ألا يكون لها مصلحة فيما تشرع . إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون ، فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد الرأسمالية ، ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية ، لكن عندما يكون المشرع غير منتفع بما يشرع ، فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى . وحين ندخل في الإسلام ندخل جميعاً لا يشذ منا أحد ، ذلك معنى { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] ، هذا معنى وارد ، وهناك معنى آخر وارد أيضاً وهو ادخلوا في السلم أي الإسلام بجميع تكاليفه بحيث لا تتركوا تكليفاً يشذ منكم . وحين يأتي المعنى الأول فلأننا لو لم ندخل في السلم جميعاً لشقي الذين يُسلمون بالذين لا يُسلمون لأن الذي يُسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للآخرين ، ويكون نفع المسلم لسواه ، ويشقى المسلم بعد إسلام من لم يسلم ، فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون جميعاً مسلمين . والذين لا يدركون هذه الحقيقة يفسرون قول الله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ … } [ المائدة : 105 ] . على غير ظاهرها ، فمن ضِمْن هدايتكم أن تُبَصّروُا من لم يؤمن بأن يؤمن لأن مصلحتكم أن تُسلموا جميعاً ، فإذا أسلمت أنت فسيعود إسلامك على الغير لأن سلوكك سيصبح مستقيماً مهذباً ، والذي لم يُسلم سيصبح سلوكه غير مستقيم وغير مهذب ، وستشقى أنت به . إذن فمن مصلحتك أن تقضي وقتاً طويلاً وتتحمل عناءً كبيراً في أن تدعو غيرك ليدخل في الإسلام . وإياك أن تقول : إن ذلك يضيع عليك فرص الحياة . لا إنه يضمن لك فرص الحياة ، ولن يضيع وقتك لأنك ستحمي نفسك من شرور غير المسلم . وأذكر جيداً أننا حين تكلمنا في فاتحة الكتاب قلنا : إن الله يُعلمنا أن نقول : " إياك نعبد " فكلنا يارب نعبدك وسنسعد جميعنا بذلك ، واهدنا كلنا يارب لأنك إن هديتني وحدي فسيستمتع غيري بهدايتك لي ، وأنا سوف أشقى بضلاله . فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون مهديين جميعاً . هذا على معنى { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] أي جميعاً . أما معنى قوله تعالى : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] أي لا تتحملون أوزار ضلالهم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر . أما المعنى الثاني فادخلوا في السلم بحيث لا يشذ منكم أحد . ويأخذ شيئاً وبعضاً من الإسلام ويترك بعضاً منه ، فأنت تريد أن تبني حياتك . ورسول الله صلى الله عليه وسلم شرح أن للإسلام أسساً هي الأركان الخمسة ، وإياك أن تأخذ ثلاثة أركان وتترك ركنين لأن هندسة الإسلام مبنية على خمسة أركان . وقد قال لي أحد المهندسين : إننا نستطيع أن ننشئ بنياناً على ثلاثة أركان أو على أربعة أو خمسة . فقلت له : ولكن حين تجعل البنيان على أربعة أركان ، وتوزع الأحمال والأثقال على أربعة أسس ، هل يمكنك حين تُنشئ أن تجعلها ثلاثة أركان فقط ؟ . قال : لا . قلت : إذن فالبناء إنما ينشأ من البداية على الأسس التي تريدها ، ولذلك فأنت توزع القوى على ثلاثة أو أربعة أو خمسة من البداية . والله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل أسس الإسلام خمسة ، وبعد ذلك يُبْنَى الإسلام ، وحين يبنى الإسلام فإياك أن تأخذ لبنة من الإسلام دون لبنة ، بل يُؤخذ الإسلام كله ، فالضرر الواقع في العالم الإسلامي إنما هو ناتج من التلفيقات التي تحدث في العالم المسلم . تلك التلفيقات التي تحاول أن تأخذ بعضاً من الإسلام وتترك بعضاً ، وهذا هو السبب في التعب والضرر لأن الإسلام لابد أن يؤخذ كله مرة واحدة . إذن { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] يعني إياكم أن تتركوا حكماً من الأحكام . إن الذي يتعب المنتسبين إلى الدين الآن أننا نريد أن نلفق حياة إسلامية في بلاد تأخذ قوانينها من بلاد غير إسلامية . إذن حتى ننجح في حياتنا ، فلابد أن نأخذ الإسلام كله . وللأسف فإن كثيراً من حكام البلاد المسلمة لا يأخذون من الإسلام إلا آخر قول الله تعالى : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] إنهم يأخذون { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] ويتركون { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] . وأقوال : لماذا تأخذون الأخيرة وتتركون ما قبلها ؟ إن الله لم يجعل لولي الأمر طاعة مستقلة بل قال : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] ليدل على أن طاعة ولي الأمر من باطن طاعة الله وطاعة الرسول . فنحن لا نريد تلفيقاً في الإسلام ، خذوه كاملاً ، تستريحوا أنتم ونستريح نحن معكم . إن الحق سبحانه وتعالى يريد بدعوتنا إلى دخول الإسلام أن يعصم الناس من فتنة اختلاف أهوائهم فخفف ورفع عن خلقه ما يمكن أن يختلفوا فيه ، وتركهم أحراراً في أن يزاولوا مهمة استنباط أسرار الله في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون ، فإن أرادوا رقياً فليُعْمِلُوا عقولهم المخلوقة لله في الكون المخلوق لله ، بالطاقة المخلوقة لله ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي ، وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية ، واكتشف سراً من الأسرار في الكون فهو لن يقدم للناس جديداً في المنهج ، وسيأخذ الناس هذا الجديد ولا يعارضونه . إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضاً من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة العلم التجريبي ، وهي أمور سيتفق عليها الناس ، ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في الأمور النابعة من أهوائهم لأن لكل واحد هوى ، وكل واحد يريد أن يتبع هواه ولا يتبع هوى الآخرين ، والحق سبحانه يريد أن يعصمنا من الأهواء لذلك قال لنا : { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [ البقرة : 208 ] أي ادخلوا في كل صور الإسلام ، حتى لا يأتي تناقض الأهواء في المجتمع . وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فلا يتناقض لسانك مع ما في قلبك ، فلا تكن مؤمن اللسان كافر القلب . كن منسجماً مع نفسك حتى لا تعاني من صراع الملكات . وأيضاً كن داخلاً في السلام مع الكون الذي تعيش فيه ، مع السماء ، مع الأرض ، مع الحيوان ، مع النبات . كن في سلم مع كل تلك المخلوقات لأنها مخلوقة مسخرة طائعة لله ، فلا تشذ أنت لتغضبها وتُحْفِظها عليك . كن منسجماً مع الزمن أيضاً ، لأن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج الله سيلعنك هو والمكان ، وإذا أردت أن تشيع سلامك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى الله عليه وسلم أن تسالم كل الكون ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشيع السلام في الزمان والمكان ، وعلى سبيل المثال كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس صياماً في شعبان ، ولما سأله الصحابة عن هذا أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لأنه بين رجب ، - وهو من الأشهر الحرم الأربعة - وبين رمضان ، فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لوناً من العبادة فلا يجعله أقل من الأزمنة الأخرى . كذلك الأمكنة تريد أن تسعد بك ، فكل الأماكن تسعد بذكر الله فيها . والحق - سبحانه - بعد أن أمرنا جميعاً بالدخول في السلم بافعل ولا تفعل ، حذرنا من اتباع الشيطان لأنه هو الذي يعمل على إبعادنا عن منهج الله فقال جل شأنه : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 208 ] . ولماذا لا نتبع خطوات الشيطان ؟ لأن عداوته للإنسان عداوة مسبقة ، وقف من آدم هذا الموقف ، وبعد ذلك أقسم بعزة الله أن يغويكم جميعاً ، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حكى لنا القصة فكأنه أعطانا المناعة ، أي أن الشيطان لم يفاجئنا . وإنما وضع الحق أمامنا قصة الشيطان مع آدم واضحة جلية ليعطينا المناعة ، بدليل أننا حين نريد أن نصون أجسامنا نجعل لأنفسنا مناعة قبل أن يأتي المرض ، نُطعم أنفسنا ضد شلل الأطفال ، وضد الكوليرا ، وضد كذا ، وكذا ، فكأن الله سبحانه وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا آدم ليقول لنا : لاحظوا أن عداوته مسبقة . وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة لأن الله نبهكم لتلك المسألة مع الخلق الأول . والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن ، لأن طائع الجن مثل طائع البشر تماماً ، ومرة يريد به شياطين الإنس . إذن من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين . وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك ، فإن رأيت نفسك مصراً على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك ، لأن النفس تريدك عاصياً من لون يشبع نقصاً فيها فهي تصر عليه : إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة المال ، وإنسان آخر يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء ، وثالث يحب الفخر والمديح فتتسلط عليه نفسه من جهة مَنْ ينافقه . لكن الشيطان لا يصر على معصية بعينها ، فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو يزين لك معصية أخرى لأنه يريدك عاصياً على أية جهة . والحق يحذرنا { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ البقرة : 208 ] . وليس هناك عداوة أوضح من عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما أورده الحق على لسانه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . ويقول الحق من بعد ذلك : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ … } .