Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 207-207)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والله سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة " يشري " يجب أن نلاحظ أنها من الأفعال التي تستخدم في الشيء ومقابله ، فـ " شرى " يعني أيضاً " باع " . إذن ، كلمة " شرى " لها معنيان ، واقرأ إن شئت في سورة يوسف قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] . أي باعوه بثمن رخيص . وتأتي أيضاً بمعنى اشترى ، فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد يقول : @ فخاض غمارها وشرى وباعا . @@ إذن " شرى " لغة ، تُستعمل في معنيين : إما أن تكون بمعنى " باع " ، وإما أن تكون بمعنى " اشترى " ، والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود منها فقول عنترة : " شرى وباع " نفهم أن المقصود من " شرى " هنا هو " اشترى " ، لأنها مقابل " باع " ، وقوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] . يوضحه سياق الآية بأنهم باعوه . وهذا من عظمة اللغة العربية ، إنها لغة تريد أناساً يستقبلون اللفظ بعقل ، ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني . { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } [ البقرة : 207 ] ونفهم " يشري " هنا بمعنى يبيع نفسه ، والذي يبيع نفسه هو الذي يفقدها بمقابل . والإنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها ، وعندها تكون التضحية ابتغاء مرضاة الله فهي الشهادة في سبيله عز وجل ، كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة الله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } [ التوبة : 111 ] . إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم . إذن فقوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 207 ] يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلاً لها ، هذا إذا كان معنى " يشري " هو باع . وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى ؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل شيء في سبيل أن تَسلم نفسه الإيمانية . ومن العجب أن هذه الآية قيل في سبب نزولها ما يؤكد أنها تحتمل المعنيين ، معنى " باع " ومعنى " اشترى " فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن سنان الرومي كان في مكة ، وقد كبر سنه ، وأسلم وأراد أن يهاجر ، فقال له الكفار : لقد جئت مكة فقيراً وآويناك إلى جوارنا وأنت الآن ذو مال كثير ، وتريد أن تهاجر بمالك . فقال لهم : أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني ؟ فقالوا : نعم . قال : تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة ؟ قالوا : لك هذا . إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانياً بثروته ، فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر فقالا له : ربح البيع يا أبا يحيى . قال : وأربح الله كل تجارتكم . وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره بقصتك ، ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع أبا يحيى . إذن معنى الآية وفق هذه القصة : أنه اشترى نفسه بماله ، وسياق الآية يتفق مع المعنى نفسه . وهذه من فوائد الأداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين . ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى ، ففي غزوة بدر ، وهي أول غزوة في الإسلام ، وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة ، وتمكن المسلمون من قتل بعض هؤلاء الصناديد ، وأسروا منهم كثيرين أيضاً ، وكان مِمَّنْ قتلوا في هذه الغزوة واحد من صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث ابن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي ، وهو من قبيلة الأوس بالمدينة ، وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ، إننا قد أسلمنا ، ونريد أن ترسل إلينا قوماً ليعلمونا الإسلام . فأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن ، فغدر الكافرون بهؤلاء العشرة فقتلوهم إلا خبيب بن عدي ، استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي آخر اسمه زيد بن الدَّثِنّة ، لكن خبيباً وقع في الأسر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة الحارث في غزوة بدر ، فباعوه لابن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه ، فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حياً ، فلما تركه مصلوباً على الخشبة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة : من ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة ؟ قال الزبير : أنا يا رسول الله . وقال المقداد : وأنا معه يا رسول الله . فذهبا إلى مكة فوجدا خبيباً على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه ، فانتهزا منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيباً وأخذاه ، فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيباً فقاموا يتتبعون الأثر ليلحقوا بمن خطفوه ، فرآهم الزبير ، فألقى خبيباً على الأرض ، ثم نظر إليه فإذا بالأرض تبتلعه فسمى بليع الأرض . وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها وقال : أنا الزبير بن العوام ، أمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، فإن شئتم فاضلتكم - يعني يفاخر كل منا بنفسه - وإن شئتم نازلتكم - يعني قاتلتكم - وإن شئتم فانصرفوا ، فقالوا : ننصرف ، وانصرفوا ، فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة التي صار إليها خبيب . إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة . وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الآية إلى أبي يحيى صهيب بن سنان الرومي تكون " شرى " بمعنى اشترى ، وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى : باع . وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع . وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه ، قالت : والله لقد رأيت خبيباً يأكل قطفاً من العنب كرأس الإنسان ! ووالله ما في مكة حائط - بستان - ولا عنب وإنما هو رزق ساقه الله له . ولما جاءوا ليقتلوه قال : أنظروني أصلِّي ركعتين . فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال : والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت . وقال قبل أن يقتلوه : اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تبق منهم أحداً . ثم هتف وقال : @ ولسـت أبالـي حـين أُقـتل مسـلماً عـلى أي جـنـب كـان فـي الله مصـرعـي @@ وكان ذلك آخر ما قاله . ويقول الحق : { وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } [ البقرة : 207 ] وما العلاقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد ؟ ما دام الله رءوفاً بالعباد فلم يشأ الله أن يجعل ذلك أمراً كلياً في كل مسلم ، وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق القضية الإيمانية ، لأنه لا يريد أن يضحي كل المسلمين بأنفسهم ، وإنما يريد أن يستبقي منا أناساً يحملون الدعوة . وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفراً ونفاقاً ، ومَنْ يقابلهم ممن يستقبلونها إيماناً خالصاً ، نادى جميع المؤمنين فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ … } .