Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 219-219)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخمر - كما نعرف - مأخوذة من الستر ، ويقال : " دخل فلان في خمرة " أي في أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها . و " الخِمار " هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها ، وهو مأخوذ أيضاً من نفس المادة . و " خامره الأمر " أي خالطه . وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر . و " الميسر " مأخوذة من اليسر لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب . والخمر والميسر من الأمور التي كانت معروفة في الجاهلية . والإسلام حين جاء ليواجه نُظُماً جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة ، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر ، ورفع راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، ثم جاء الإسلام في الأمور التي تُعتبر من العادات فبدأ يهونها لأن الناس كانت تألفها ، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة . وكان هذا من حكمة الشرع ، فلم يجعل الأحكام في أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي الوجود كله ، وإنما أخذ الأمور بالهوادة . وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر ، فماذا تستر ؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه . ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذي كرمه الله بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة في الأرض ويستره ويغيِّبه ، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التي أكرمه بها ، وهذا هو الحمق . ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا ، ونسأل هؤلاء : وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها ؟ لا ، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك ، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها ، لا ، بل لابد أن توظف عقلك في مواجهتها ، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتي لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل ، والذي يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل . وهل النسيان يمنع المصائب ؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل للخروج منها ، فإذا كان الأمر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه لأن الله يريد منك أن تريح عقلك في مثل هذه الأمور ، وإن كان الأمر له حل وفي استطاعتك حله ، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته . والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم ، ويعطينا عطاء لنحكم نحن في الأمر قبل أن يطلب منا . إنه - سبحانه - يمتن علينا ويقول : { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] . فعندما ذكر الله " سَكَراً " مر عليها بلا تعليق . وعندما قال : " رزقاً " وصفه بأنه " حسناً " فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله يمهد لموقف الإسلام من الخمر فهو لم يصف " السكر " بأي وصف ، وجعل للرزق وصفاً هو الحسن فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً ، فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن ، لأن هناك فرقاً بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساتراً للعقل . وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح . فعندما تنصح شخصاً فأنت تقول له : سأدلك على طريق الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو لا تسير . وعندما تشرع وتضع الحكم ، فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه . والحق سبحانه وتعالى عندما قال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [ البقرة : 219 ] ، ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها ، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ولو لم يقل { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] لاستغرب الناس وقالوا : نحن نأخذ من الخمر منافع ، ونكسب منها ، وننسى بها همومنا ، كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم ، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما ، أي أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما ، وهذا تقييم عادل ، فلم تكن المسألة قد دخلت في نطاق التحريم ، لأنها مازالت في منطقة النصح والإرشاد . وقوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] يجعل فيهما نوعاً من الذنب ، لقد كان التدرج في الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإِلْفِ العادة ، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة . والعادة شيء يقود إلى الاعتياد بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتُك ودمك يحدث لك اضطراب . وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد ، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد . لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً ، وجاء ليصلي ، فقال : " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون " وبعدها نزل تأديب الحق بقوله : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ … } [ النساء : 43 ] . وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها فالإنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران ، فمتى يمتنع إذن ؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلي الصبح ، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة ، ثم العصر بعد ذلك ، ويليه المغرب فالعشاء ، أي لن يصبح عنده وقت ليشرب في الأوقات التي ينتظر فيها الصلاة ، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا في آخر الليل ، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط في نومه . ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر . ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع ، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التي دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً في الخمر فنزل قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 90 - 91 ] . فقالوا : انتهينا يا رب . إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان ، وهو مناط الاختيار بين البديل ، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة . إن هدف الدين في المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التي لا يستغني عنها الإنسان : سلامة النفس ، وسلامة العرض ، وسلامة المال ، وسلامة العقل ، وسلامة الدين . وكل التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس ، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل ، فسلامة العقل تجعله يفكر في دينه . وسلامة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة . وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض . إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة ، والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأي شيء مُسكر . حتى لا يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس . وقد جمع الله في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر ، وهو جل وعلا يريد أن يحمي غفلة الناس . فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام بعضهما البعض ، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر ، فأي أخوة تبقى بين هؤلاء ؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين الاثنين ؟ ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الأصحاب ، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر ، فأي خيبة في هذه الصداقة ؟ ! ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله ، يأخذ ماله ويبقى على صداقته ، والعجب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر . ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً ، لماذا ؟ لأن المال حين يُكتسب بيسر ، يُصرف منه بلا احتياط ، هذا هو حال من يكسب ، أما بالنسبة للخاسر فنجده يعيش في الحسرة والألم على ما فقد ، وتجده في فقر دائم ، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه ، إن لم يبع ملابسه ، وأعز ما يملك ، ويحدث كل ذلك بأمانٍ زائفة ، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين ، الذي كسب والذي خسر ، فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر ، والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب . وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه ، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص ، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس . وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع ، فهم الذين يرتشون ويسرقون ويعربدون ، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق ، وبيوتهم منهارة ، وأسرهم مفككة ، وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم . ولذلك قال الحق : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] وما دام الإثم أكبر من النفع ، فقد رجح جانب الإثم . هذا في العملية الذاتية ، أما في العملية الزمنية فقد قال سبحانه : { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } [ النساء : 43 ] . وبعد ذلك أنهى - سبحانه - المسألة بقوله الحق : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] . ثم تمضي الآية إلى سؤال آخر هو { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] إنه السؤال نفسه من عمرو بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [ البقرة : 215 ] وهنا جواب بشكل وصورة أخرى { قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] والعفو معناه الزيادة وفي ذلك يقول الحق - سبحانه وتعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الأعراف : 94 - 95 ] . إن الله - جلت قدرته - يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر ، إنه - سبحانه - لم يرسل نبيًّا إلى قوم فقابلوه بالتكذيب والنكران إلاّ أخذهم وابتلاهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم يتوبون إلى ربهم ويتذلَّلون له - سبحانه - ليرفع عنهم ما ابتلاهم به ، ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم ، وقالوا - وهم في ظل تلك النعم - : إن ما يصيبنا من سراء وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون ، وعادة الدهر ، فأسلافنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما يصيبنا ، ولما أصروا على كفرهم باغتهم الله بالعذاب ، وأنزل بهم العقاب المفاجئ . قلبهم الله بين الشدة والرخاء ، وعالجهم بالضر واليسر ، حتى لا تكون لهم حجة على الله ، ولما ظهرت خسة طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . ولنتأمل قوله تعالى في ذلك : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 42 - 44 ] . أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أوتوا من النعمة والثراء وكثرة العدد ، " أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " أي يائسون من رحمة الله أو نادمون متحسرون ، ولا ينفعهم الندم حينئذ . فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم . إن الحق ينزل هذا الأمر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة ، إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقاباً صاعقاً ، كالذي يرفع كائناً في الفضاء ثم يتركه ليهوي على الأرض ، والعفو هنا يمكن أن يكون بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان . وهناك معنى آخر للعفو ، فقد يأتي بمعنى الترك : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 178 ] . أي فمن ترك له أخوه شيئاً فليأخذه . إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة ، وتارة أخرى يكون بمعنى الترك ، والحق هنا يقول : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] أي أن الإنفاق إنما يكون من الزائد عن الحاجة ، فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك ، وهكذا نرى أن العفو واحد في كلا الأمرين ، فلا تظن أن المعاني تتضارب لأن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية . فالعفو هو الزيادة ، والعفو أيضاً يؤخذ بمعنى الصفح . إذن فالإنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع . فالذي يزرع أرضاً وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد ، فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو جاره المحتاج ؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق ؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها المعروف . وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة ؟ لأن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك ، فجعل حركته تخفف عنه ولا تثقل عليه . لأن حركة المتحرك تنفع المتحرك ، أراد المتحرك أو لم يرد ولذلك نجد " زكاة الركاز " وهي الزكاة المفروضة على ما يوجد في باطن الأرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها ، لقد جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة ، أي الخمس بينما الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته . وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر . والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج يشتري منه ، ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها ، هذا نقول له : عليك اثنان ونصف في المائة 2 . 5 فقط . إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد ، كأن الحق يحمي الحركة الإنسانية من حمق التقنين البشري . إن المتحرك القوي يدفعه الله ليزيد من حركته لينتفع المجتمع ، وأوكل الله للحاكم الذي يتبع منهج الإسلام أن يأخذ من الأثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء . إِنْ بَخِلَ الأغنياء بفضل الله عليهم ، ولم ينفقوا على الفقراء من رزق الله فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع ، ومن فساد الكسل ، ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس . فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن . وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة الأمان ، وهكذا لقد حمى الله بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر ، فالمقنن من البشر يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه الأعباء ، نقول له : إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه فالإنسان الذي يملك مالاً يُلقي الله خاطراً في باله ، فيقول : " ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار ، وفي كل دور أربع شقق " ويحسب كم تعطيه تلك العمارة من عائد كل شهر . إن هذا الرجل لم يكن في باله إلا أن يربح ، فنتركه يفكر في الربح ، وعندما نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل ، ولنا أن نحسب كم فرداً سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة ؟ ابتداء من البنائين ومروراً بالنجارين والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم . إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه مليم واحد لقد ألقى الله في نفسه خاطراً ، فأخرج كل ما في جيبه ، وألقاه في جيوب الآخرين قبل أن توجد له عمارة . وهكذا يحمي الله حركة المتحرك لأن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم يقصد . أما إذا قلنا له : سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسراً فلا بد أن يقول لنفسه : " سأجعل حركتي على قدر حاجتي ولا أزيد إلا قليلاً " . والحق عز وجل لا يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس ، ولكن يريد لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلال ، وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم ، لأن الحركة لا يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها المجتمع ، فبعضه يسكن ، وآخر يزرع ، وثالث يعمل ، وخير للإنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم . عن المقدام بن معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده " . ويقول الحق من بعد ذلك : { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ … } .