Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 22-22)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فبعد أن بيَّنَ لنا الحق سبحانه وتعالى أن عطاء ربوبيته الذي يعطيه لخلقه جميعاً : المؤمن والكافر ، كان يكفي لكي يؤمن الناس - كل الناس - … أخذ يبين لنا آيات من عطاء الربوبية . ويلفتنا إليها لعل مَنْ لم يؤمن عندما يقرأ هذه الآيات يدخل الإيمان في قلبه . فيلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى خلق الأرض في قوله تعالى : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] . والأرض هي المكان الذي يعيش فيه الناس ولا يستطيع أحد أن يدَّعي أنه خلق الأرض أو أوجدها . إذن : فهي آية ربوبية لا تحتاج لكي نتنبه إليها إلى جهد عقلي لأنها بديهات محسومة لله سبحانه وتعالى . وقوله تعالى : " فراشاً " توحي بأنه أعد الأرض إعداداً مريحاً للبشر . كما تفرش على الأرض شيئاً ، تجلس عليه أو تنام عليه ، فيكون فراشاً يريحك . ونحن نتوارث الأرض جيلاً بعد جيل . وهي تصلح لحياتنا جميعاً . ومنذ أن خُلِقت الأرض إلى يوم القيامة ، ستظل فراشاً للإنسان . قد يقول بعض الناس : أنك إذا نمت على الأرض فقد تكون غير مريحة تحتك ، فيها حصى أو غير ذلك مما يضايقك . نقول : إن الإنسان الأول كان ينام عليها مستريحاً … إذن فضرورة النوم ممكنة على الأرض . وعندما تقدمت الحضارة وزادت الرفاهية ظلت الأرض فراشاً رغم ما وُجِد عليها من أشياء لينة . فكأنَّ الله تعالى قد أعدها لنا إعداداً يتناسب مع كل جيل . فكل جيل رُفِّه في العيش بسبب تقدم الحضارة كشف الله سبحانه من العلم ما يطوع له الأرض ويجعلها فراشاً . ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداًَ … } [ الزخرف : 10 ] . والمهد : هو فراش الطفل ، ولابد أن يكون مريحاً لأن الطفل إذا وجد في الفراش أي شيء يتعبه ، فإنه لا يملك الإمكانات التي تجعله يريحه ، ولذلك تمهِّد الأم لطفلها مكان نومه ، حتى ينام نوماً مريحاً . ولكن الذي يمهد الأرض لكل خلقه هو الله سبحانه وتعالى . يجعلها فراشاً لعباده . وإذا قرأت قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ … } [ الملك : 15 ] . فإن معنى ذلك أن الحق سبحانه جعل الأرض مطيعة للإنسان ، تعطيه كل ما يحتاج إليه . ويأتي الحق سبحانه وتعالى إلى السماء فيقول : " والسماء بناءً " والبناء يفيد المتانة والتماسك . أي أن السماء - وهي فوقك - لا نرى شيئاً يحملها حتى لا تسقط عليك . إنها سقف متماسك متين … ويؤكد الحق هذا المعنى بقوله تعالى : { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] . وفي آية أخرى يقول : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً … } [ الأنبياء : 32 ] . والهدف من هذه الآيات كلها أن نطمئن ونحن نعيش على الأرض أن السماء لن تتساقط علينا لأن الله يحفظها . إذن : من آيات الحق سبحانه وتعالى في الأرض أنه جعلها فراشاً أي : ممهدة ومريحة لحياة الإنسان ، وحفظ السماء بقدرته جل جلاله ، فهي ثابتة في مكانها ، لا تهدد سكان الأرض وتفزعهم ، بأنها قد تسقط عليهم ، ثم جاء بآية أخرى : { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ … } [ البقرة : 22 ] . فكأن الحق سبحانه وتعالى وضع في الأرض وسائل استبقاء الحياة . فلم يترك الإنسان على الأرض دون أن يوفر له وسائل استمرار حياته . فالمطر ينزل من السماء ، والسماء هي كل ما علاك فأظلك . فينبت به الزرع والثمر ، وهذا رزق لنا ، والناس تختلف في مسألة الرزق . والرزق هو ما يُنْتفَعُ به ، وليس هو ما تحصل عليه . فقد تربح مالاً وافراً ولكنك لا تنفقه ولا تستفيد منه فلا يكون هذا رزقك ولكنه رزق غيرك ، وأنت تظل حارساً عليه ، لا تنفق منه قرشاً واحداً ، حتى توصله إلى صاحبه . والرزق في نظر معظم الناس هو المال ، قال عليه الصلاة والسلام : " يقول ابن آدم : مالي مالي … وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، ولبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " . هذا هو رزق المال ، وهو جزء من الرزق . ولكن هناك رزق الصحة . ورزق الولد . ورزق في الطعام ، ورزق في البركة ، وكل نعمة من الله سبحانه وتعالى هي رزق وليس المال وحده . فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا بهذه الآية الكريمة إلى أن نفكر قليلاً ، فيمن خلق هذا الكون . لنعرف أنه قبل أن يخلق الإنسان خلق له عناصر بقائه . ولكن هذا الإعداد لم يتوقف عند الحياة المادية . بل إن الله كما أعد لنا مقومات حياتنا المادية أعد لنا مقومات حياتنا الروحية ، أو القيم في الوجود . وإذا قرأت في سورة الرحمن قوله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] . لوجدت القرآن يعطينا قيم الحياة ، التي بدونها تصبح الدنيا كلها لا قيمة لها . لأن الدنيا امتحان أو اختبار لحياة قادمة في الآخرة . فإذا لم تأخذها بمهمتها في أنها الطريق الذي يوصلك إلى الجنة . أهدرت قيمتها تماماً . ولم تعد الدنيا تعطيك شيئاً إلا العذاب في الآخرة . وقد ربط الحق سبحانه وتعالى الرزق في هذه الآية بالسماء فقال سبحانه : { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ … } [ البقرة : 22 ] . ليلفتنا إلى أن الرزق ، لا يأتي إلا من أعلى ، وضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالماء لأنه رزق مباشر محسوس منا ، والماء ينزل من السماء في أنقى صوره مقطراً . كل ما يأتينا من السماء فيه علو . ينزل ليزيد حياة القيم ارتقاءً ، عملية لو أراد البشر أن يقوموا بها ما استطاعوا لأنها كانت ستتكلف ملايين الجنيهات ، لتعطينا ماءً لا يكفي أسرة واحدة . ولكن الله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماءً في أنقى صوره لينبت به الثمرات ، التي تضمن استمرار الحياة في هذا الكون . وبعد أن نفهم هذه النعم كلها . والإعجاز الذي فيها ونستوعبها يقول الحق تبارك وتعالى : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] . " أنداداً " جمع نِدّ ، والند هو النظير أو الشبيه . وأي عقل فيه ذرّة من فكر يبتعد عن مثل هذا ، فلا يجعل لله تعالى شبيهاً ولا نظيراً ولا يُشَبِّهُ بالله تعالى أحداً . فالله واحد في قدرته ، واحد في قوته ، واحد في خلقه . واحد في ذاته ، وواحد في صفاته . ولا توجد مقارنة بين صفات الحق سبحانه وتعالى وصفات الخلق . والله خلق لكل منا عقلاً يفكر به ، لو عرضت هذه المسألة على العقل لرفضها تماماً ، لأنها لا تتفق مع عقل أو منطق ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] . أي تعرفون هذا جيداً بعقولكم لأن طبيعة العقل ترفض هذا تماماً . فمنذا الذي يستطيع أن يدَّعي أنه خلقكم والذين من قبلكم ؟ ! ومنذا الذي يستطيع أن يدَّعي ولو كذباً ، أنه هو الذي جعل الأرض فراشاً ، وجعل السماء سقفاً محفوظاً ، أو أنزل المطر وأنبت الزرع ؟ لا أحد . إذن : فأنتم تعلمون أن العقل كله لله وحده ، وما دام لا يوجد معارض ولا يمكن أن يوجد . فالقضية محسومة للحق تبارك وتعالى . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ … } [ البقرة : 165 ] . لماذا اتخذ هؤلاء الناس لله تعالى أنداداً ؟ لأنهم يريدون ديناً بلا منهج . يريدون أن يُرضوا فطرة الإيمان التي خلقها الله فيهم . وفي الوقت نفسه يتبعون شهواتهم . عندما فكروا في هذا وجدوا أن أحسن طريقة هي أن يختاروا إلهاً بلا منهج ، لا يطلب منهم شيئاً ، ولذلك كل دعوة منحرفة تجد أنها تبيح ما حرَّم الله ، وتحل الإنسان من كل التكاليف الإيمانية كالصلاة والزكاة والجهاد وغيرها . أما الذين آمنوا ، فإنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى إنما وضع منهجه لصالح الإنسان ، فالله لا يستفيد من صلاتنا ولا من زكاتنا . ولا من منهج الإيمان شيئاً ، ولكننا نحن الذين نستفيد من رحمة الله . ومن نعم الله ومن جنته في الآخرة . ولأن الذين آمنوا يعرفون هذا فإنهم يحبون الله حباً شديداً ، والذين كفروا رغم كل ما يدعون فإنهم ساعة العسرة يلجأون إلى الله سبحانه وتعالى باعتباره وحده الملجأ والملاذ . واقرأ قوله تبارك وتعالى : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ … } [ يونس : 12 ] . لماذا لم يستدع الأنداد ؟ لأن الإنسان لا يغش نفسه أبداً في ساعة الخطر ، ولأن هؤلاء يعرفون بعقولهم أنه لا يمكن أن يوجد لله أنداد . ولكنه يتخذهم لأغراض دنيوية . فإذا جاء الخطر يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى لأنه يعلم يقيناً أنه وحده الذي يكشف الضر ، فحلاق الصحة الذي يعالج الناس دجلاً ، إذا مرض ابنه أسرع به إلى الطبيب ، لأنه يغش الناس . ولكنه لا يمكن أن يغش نفسه . ولقد كان الأصمعي واقفاً عند الكعبة ، فسمع أعْرابياً يدعو ويقول : " يا رب ، أنت تعلم أني عاصيك وكان من حقك عليَّ ألا أدعوك ، وأنا عاصٍ . ولكني أعلم أنه لا إله إلا أنت فلمَنْ أذهب ؟ " فقال الأصمعي : يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك " .