Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 273-273)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ساعة أن نسمع " جاراً ومجروراً " قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقاً . ما هو الذي للفقراء ؟ هو هنا النفقة ، أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . وإذا سألنا : ما معنى " أحصروا " فإننا نجد أن هناك " حَصر " وهناك " أحصر " وكلاهما فيه المنع ، إلا أن المنع مرة يأتي بما لا تقدر أنت على دفعه ، ومرة يأتي بما تقدر على دفعه . فالذي مرض مثلاً وحُصِرَ على الضرب في الأرض ، أكانت له قدرة أن يفعل ذلك ؟ لا ، ولكن الذي أراد أن يضرب في الأرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعاً ، إذن فيئول الأمر في الأمرين إلى المنع ، فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منعٌ من وجود فعل الغير ، فهم أحصروا في سبيل الله . حُصِرُوا لأن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة ، أو حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد ، ولم يحبوا أن يشتغلوا بغيره لأن الإسلام كان لا يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون . وهؤلاء هم أهل الصُّفة { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 273 ] وعدم استطاعتهم ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل الله ، هذا من الجائز وذاك من الجائز . وكان الأنصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه ، ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري المسجد ، وكلما جاع واحد من أهل الصُّفَّة أخذ عصاه وضرب سباطة التمر ، فينزل بعض التمر فيأكل ، وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه ، وهذا هو ما قال الله فيه : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ … } [ البقرة : 267 ] . وإذا نظرنا إلى قول الحق : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 273 ] و " الضرب " هو فعل مِن جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب ، وما هو الضرب في الأرض ؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة ، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً ، وتضربها بذراً ، لا تأخذ الأمر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } [ الملك : 15 ] . إن الأرض مسخرة من الحق سبحانه للإنسان ، يسعى فيها ، ويضرب فيها ويأكل من رزق الله الناتج منها . وحين يقول الله سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون الضرب في الأرض { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء ، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة ، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] والسمة هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها ، فكأنك ستجد فيهم خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا ، ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق الإنفاق عليهم ، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول بعدها : { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن الإلحاحٍ والإلحاف فيه ، ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بلا إلحاف ولا إلحاح أَمَا كان هذا دليلاً على أنهم ليسوا أغنياء ؟ نعم ، لكنه قال : { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] إذن فليس هناك سؤال ، لا سؤال على إطلاقه ، ومن باب أولى لا إلحاف في السؤال بدليل أن الحق يقول : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } [ البقرة : 273 ] ، ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم ، إذن فالآية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال ، وأما كلمة " الإلحاف " فجاءت لمعنى من المعاني التي يقصد إليها أسلوب الإعجازي ، ما هو ؟ إن " السيما " - كما قلنا - هي العلامة المميزة التي تدل على حال صاحبها ، فكأنك ستجد خشوعاً وانكساراً ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة ، فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتبر سؤاله إلحاحاً لأن حاله تدل على الحاجة ، وما دامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب أن يجد من يكفيه السؤال ، فإذا ما سأل مجرد سؤال فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها . وأيضاً يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه ولا يدعه يسأل ، لأنك لو عرفت بـ " السيما " فأنت ذكي ، أنت فطن ، أنما لو لم تعرف بـ " السيما " وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك ، إذن فعندك تقصير في فطنة النظر ، فهو سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى مَن عليه همُّ الحاجة ومن عنده خواطر العوز ، فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطنة إيمانية . ولنا العبرة في تلك الواقعة ، فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء ، فأعطاه الطارق ثم عاد باكياً فقالت له امرأته : ما يبكيك ؟ . قال : إن فلاناً طرق بابي . قالت : وقد أعطيته فما الذي أبكاك ؟ . قال : لأني تركته إلى أن يسألني . إن العارف بالله بكى لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته ، وأن يتعرف على أخبار إخوانه . ولذلك شرع الله اجتماعات الجمعة حتى يتفقد الإنسان كل أخ من إخوانه ، ما الذي أقعده : أحاجة أم مرض ؟ أحدث أم مصيبة ؟ وحتى لا يحوجه إلى أن يذل ويسأل ، وحين يفعل ذلك يكون له فطنة الإيمان . { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 273 ] يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي ، فالأمر محسوب عنده بميزان ، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره ، وما قدره قديماً يلزم حالياً ، وهو سبحانه قد قدر لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل . وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه ، وله هيئة يحدث عليها . والزمن ليل أو نهار . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبيناً حالات الإنفاق والأزمان التي يحدث فيها وذلك في قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً … } .