Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 275-275)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وانظروا إلى كلمة " يأكلون " ، هل كل حاجات الحياة أكل ؟ لا ، فحاجات الحياة كثيرة ، الأكل بعضها ، ولكن الأكل أهم شيء فيها لأنه وسيلة استبقاء النفس . و " الربا " هو الأمر الزائد ، وما دام هو الأمر الزائد يعني هو لا يحتاج أن يأكل ، فهذا تقريع له . إن الحق يريد أن يبشع هذا الأمر فيقول : لهم سمة . هذه السمة قال العلماء أهي في الآخرة يتميزون بها في المحشر ، كما يقول الحق : { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ … } [ الرحمن : 41 ] . فهؤلاء غير المصلين لهم علامة مميزة ، وهؤلاء غير المزكين لهم علامة أخرى مميزة بحيث إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم ، وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة ، فكأنهم حين يقومون يوم القيامة يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه ، أو أن ذلك أمر حاصل لهم في الدنيا ، ولنبحث هذا الأمر : { ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] . نريد أن نعرف كلمة " التخبط " وكلمة " الشيطان " وكلمة " المس " . " التخبط " هو الضرب على غير استواء وهدى ، أنت تقول : فلان يتخبط ، أي أن حركته غير رتيبة ، غير منطقية ، حركة ليس لها ضابط ، ذلك هو التخبط . و " الشيطان " جنس من خلق الله لأن الله قال لنا : إنه خلق الإنس والجن ، والجن منهم شياطين ، وجن مطلق ، والشيطان هو عاصي الجن . ونحن لم نر الشيطان ، ولكننا علمنا به بواسطة إعلام الحق الذي آمنا به فقال : أنا لي خلق مستتر ، ولذلك سميته الجن ، من الاستتار ومنه المجنون أي المستور عقله ، والعاصي من هذا الخلق اسمه " شيطان " . إذن فإيماننا به لا عن حس ، ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به . وحين نجد شيئاً اسمه الإيمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير مُحس لأن المُحس لا يقال لك : آمن به لأنه مشهود لك ، فأنا لا أقول : أنا أؤمن بأن المصباح منير الآن ، أنا لا أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد الآن ، لا أقول ذلك لأن هذا واقع مشهود ومُحسّ . إذن فالأمر الإيماني يتعلق بالغيب ، مثل الإيمان بوجود الملائكة . فإذا ما كنا قد آمنا بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان ، ولكنه حين يعطينا صورة للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له ، كما أن رءوسنا نحن هي التي تميزنا يتكلم سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 64 - 65 ] . وشجرة الزقوم في الآخرة في النار ، إذن فنحن لا نراها ، ورءوس الشياطين لا نراها ، فكيف يشبه الله ما لم نره بما لم نره ، يشبه شيئاً مجهولاً بشيء مجهول ؟ نقول : نعم ، وذلك أمر مقصود للإعجاز القرآني لأن للشيطان صورة متخيلة بشعة ، بدليل أنك لو طلبت من رسامي العالم في فن الكاريكاتير ، وقلت لهم : ارسموا لنا صورة الشيطان ، ولم تعطهم ملامح صورة محددة ، فكل منهم يرسم وفق تخيله كياناً غاية في القبح : فهذا يصوره بالقبح من ناحية ، وذاك يصوره بالقبح من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد رسم مع رسم . إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها . وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي الجائزة لأجملهم صورة أم لأقبحهم صورة ؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحاً . إذن فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة ، ولو جاء على صورة واحدة من القبح لاختلف الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحاً عندك ولا يكون قبحاً عند آخر ، ولكن حين يُطلق الله أخيلة الناس في تصور القبح ، يكون القبح مائلاً وواضحاً في عمل كل إنسان فتكون الصورة أكمل وأوفى فالأكمل والأوفى أن يكون القبح شائعاً فيها جميعاً . ويقول الحق : { ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] الشيطان قلنا : إنه العاصي من الجن ، وقلنا : إن ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيراً أنّ الشياطين لهم التصاق واتصال بكثير من الإنس : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] . و { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] كأن الشيطان قد مس التكوين الإنساني مساً أفسد استقامة ملكاته ، فالتكوين الإنساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض فكل حركة لها استقامة ، فإذا ما مسّه الشيطان فسد تآزر الملكات ، فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة وغير منسجمة مع بعضها البعض ، فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية . وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا ؟ . إن أردنا في الآخرة ميزة ، فساعة ترى واحداً مصروعاً فاعرف أنه من أصحاب الربا ، هذا في الآخرة ، وفي الدنيا تجد أيضاً أن له حركة غير منطقية ، هستيرية ، كيف ؟ انظر إلى العالم الآن ، لقد خلق الله العالم على هيئة من التكامل . فهذا إنسان يتمتع بإمكانات ومواهب ، وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى ، حتى يحتاج صاحب هذه الإمكانات إلى صاحب تلك الإمكانات فيكتمل الكون ، ولو أن كل إنسان كان وحدة متكررة لاستغنى الكل عن الكل . ولو أن الأفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض . لكن المواهب تختلف لأنك إن أَجَدْتَ فنًا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنوناً أخرى أنت محتاج إليها ، فإن احتاجوا إليك فيما أَجَدْتَ ، فقد احتجت إليهم فيما أجادوا ، وهكذا يتكامل العالم . وكذلك خلق الله الكون : مناطق حارة ، ومناطق باردة ، ومناطق بها معادن ، ومناطق بها زراعة حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل ، ويضطر العالم إلى أن يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة " الرحمن " : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] . " وضعها " لمن ؟ . " والأرض " ، أي أرض ، وأي أنام ؟ . الأرض كل الأرض ، والأنام كل الأنام ، فإن تحددت بحواجز فسدت . إن منع الإنسان من حرية الانتقال من مكان إلى مكان يفسد حركة الإنسان في الكون ، فقد يرغب إنسان في أن ينتقل إلى أرض بكر ليعمرها ، فيرفض أهل تلك الأرض ، فلو أن الأرض كل الأرض كانت للأنام بحيث إن ضاق العمل في مكان ذهبت إلى مكان آخر ، بدون قيود عليك ، تلك القيود التي نشأت من السلطات الزمنية التي تحتجز الأماكن لأنفسها ، فهذا ما يفسد الكون . فهناك بيئات تشتكي قلة القوت ، وبيئات تشتكي قلة الأيدي العاملة لأرض خراب وهي تصلح أن تزرع ، فلو أن الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام لما حدث عجز . ونلاحظ ما يُقال : ازدحام السكان أو الانفجار السكاني ، بينما توجد أماكن تتطلب خلقاً ! ويوجد خلق تتطلب أماكن ، فلماذا هذا الاختلال ؟ هذا الاختلال ناشئ من أن السلوك البشري غير منطقي في هذا الكون . والكون الذي نعيش فيه ، فيه ارتقاءات عقلية شتّى ، وطموحات ابتكارية صعدت إلى الكواكب ، وتغزو الفضاء ، ووُجِدَت في كل بيت آلات الترفيه ، أما كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم سعيداً مستريحاً ؟ كان المنطق يقتضي أن يعيش العالم مستريحاً هادئاً لأنه في كل يوم يبتكر أشياءً تعطي له أكبر الثمرة بأقل مجهود في أقل زمن ، فماذا نريد بعد هذا ؟ ولكن هل العالم الذي نعيش فيه منطقي مع هذا الواقع ؟ لا ، بل نحن نجد أغنى بلاد العالم وأحسنها وفرة اقتصادية هي التي يعاني الناس فيها القلق ، وهي التي تمتلئ بالاضطراب ، وهي التي ينتشر فيها الشذوذ ، وهي التي تشكو من ارتفاع نسبة الجنون بين سكانها . إذن فالعالم ليس منطقياً . وهذا التخبط يؤكد ما يقوله الحق : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] إنها حركة هستيرية في الكون تدل على أنه كَوْنٌ غير مستريح ، كون غير منسجم مع طموحاته وابتكاراته . أما كان على هذا الكون بعقلائه أن يبحثوا عن السبب في هذا ، وأن يعرفوا لماذا نشقى كل هذا الشقاء وعندنا هذه الطموحات الابتكارية ؟ كان يجب أن يبحثوا ، فالمصيبة عامة ، لا تعم الدول المتخلفة أو النامية فقط ، بل هي أيضاً في الدول المتقدمة ، كان يجب أن يعقد المفكرون المؤتمرات ليبحثوا هذه المسألة ، فإذا ما كانت المسألة عامة تضم كل البلاد متقدمها ومتأخرها وجب أن نبحث عن سبب مشترك ، ولا نبحث عن سبب قد يوجد عند قوم ولا يوجد عند قوم آخرين لأننا لو بحثنا لقلنا : يوجد في هذه البيئة . وكذلك هو موجود في كل البيئات ، فلا بد أن يوجد القدر المشترك . فالأرزاق التي توجد في الكون تنقسم إلى قسمين : رزق أنتفع به مباشرة ، ورزق هو سبب لما أنتفع به مباشرة . أنا آكل رغيف الخبز ، هذا اسمه رزق مباشر ، وأشرب كوب الماء ، وهو رزق مباشر ، وأكتسي بالثوب وذلك أيضاً رزق مباشر ، وأسكن في البيت وهذا رابعاً رزق مباشر ، وأنير المصباح رزق مباشر . ولكن المال يأتي بالرزق المباشر ، ولا يغني عن الرزق المباشر . فإذا كان عندي جبل من ذهب وأنا جوعان ، ماذا أفعل به ؟ . إذن فرغيف العيش أحسن منه ، هذا رزق مباشر ، فالنقود أو الذهب أشتري بها هذا وهذا ، لكن لا يغنيني عن هذا وهذا . وقد جاء وقت أصبح الناس يرون فيه أن المال هو كل شيء حتى صار هدفاً وتعلق الناس به … وفي الحق أنّ المال ليس غاية ، ولا ينفع أن يكون غاية بل هو وسيلة . فإن فقد وسيلته وأصبح غاية فلا بد أن يفسد الكون فعِلّة فساد الكون كله في القدر المشترك الذي هو المال ، حيث أصبح المال غاية ، ولم يعد وسيلة . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطهر حياة الاقتصاد للناس طهارة تضمن حِلّ ما يطعمون ، وما يشربون ، وما يكتسون ، حتى تصدر أعمالهم عن خليات إيمانية طاهرة مصفاة ذلك أن الشيء الذي يصدر عن خلية إيمانية طاهرة مصفاة لا يمكن أن ينشأ عنه إلا الخير . ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الآن جاهدين أن يتخلصوا منه ، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية ، ولكن لأنهم يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا . وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا ، فقديماً أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين قام رجل الاقتصاد العالمي " شاخت " في ألمانيا وقد رأى اختلال النظام فيها وفي العالم ، فوضع تقريره بأن الفساد كله ناشئ من النظام الربوي ، وأن هذا النظام يضمن للغني أن يزيد غنى ، وما دام هذا النظام قد ضمن للغني أن يزيد غنى ، فمن أين يزداد غنى ؟ لاشك أنه يزداد غنى من الفقير . إذن فستئول المسألة إلى أن المال سيصبح في يد أقلية في الكون تتحكم في مصائره كلها ولا سيما المصائر الخلقية . لماذا ؟ . لأن الذين يحبون أن يستثمروا المال لا ينظرون إلا إلى النفعية المالية ، فهم يديرون المشروعات التي تحقق لهم تلك النفعية . وهناك رجل اقتصاد آخر هو " كينز " الذي يتزعم فكرة " الاقتصاد الحر " في العالم يقول قولته المشهورة : إن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى درجة الصفر . ومعنى ذلك أنه لا ربا . وإذا ما نظرنا إلى عملية عقد الربا في ذاتها وجدناها عقداً باطلاً لأن كل عقد من العقود إنما يوجد لحماية الطرفين المتعاقدين ، وعقد الربا لا يحمي إلا الطرف الدائن فقط ، وهناك أمر خلقي آخر وهو أن الإنسان لا يعطي ربا إلا إذا كان عنده فائض زائد على حاجته . ولا يأخذ إنسان من المرابي إلا إذا كان محتاجاً . فانظروا إلى النكسة الخلقية في الكون . إن المعدم الفقير الذي لا يجد ما يسد جوعه وحاجته يضطر إلى الاستدانة ، وهذا الفقير المعدم هو الذي يتكفل بأن يعطي الأصل والزائد إلى الغني غير المحتاج . إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغناً ، وتوجد في المجتمع حقداً ، وتقضي على بقية المعروف وقيمته بين الناس ، وتنعدم المودة في المجتمع . فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ إنساناً غنياً عنده المال ، ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن يزيد عليه ، فعلى أية حال ستكون مشاعر وأحاسيس الفقير ؟ كان يكفي الغني أن يعطي الفقير ، وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه الفقير ، ولكن الغني المرابي يطلب من الفقير أن يسدد ما أخذه ويزيد عليه . وكانوا يتعللون ويقولون : إن النص القرآني إنما يتكلم عن الربا في الأضعاف المضاعفة ، فإذا ما منعنا القيد في الأضعاف المضاعفة لا يكون حراماً ! ! أي أنهم يريدون تبرير إعطاء الفقير مالاً ، وأن يرده أضعافاً فقط لا أضعافاً مضاعفة حتى لا يصير ذلك الاسترداد بالزيادة حراماً . ولهؤلاء نقول : إن الذين يقولون ذلك يحاولون أن يتلصصوا على النص القرآني ، وكأن الله قد ترك النص ليتلصصوا عليه ويسرقوا منه ما شاءوا دون أن يضع في النص ما يحول دون هذا التلصص ، ولو فطنوا إلى أن الله يقول في آخر الأمر : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة : 279 ] . هذا القول الحاسم يوضح أن الله لم يستثن ضعفاً ولا أضعافاً . إذن فقوله الحق : { يَآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 130 ] . إن هذا القول الحكيم لم يجئ إلا ليبين الواقع الذي كانوا يعيشونه ، ولم يستثن الله ضعفاً أو أضعافاً لأن الحق جعل التوبة تبدأ من أن يأخذ الإنسان رأس ماله فقط ، فلا يسمح الله لأحد أن يأخذ نصف الضعف أو الضعف أو الضعفين ، ولا يسمح بالأضعاف ولا بالمضاعفات . وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفين على أي أمر يعتبر تراضياً ويعتبر عقداً . قد يكون ذلك صحيحاً إن لم يكن هناك مشرع أعلى من كل الخلق يسيطر على هذا التراضي . فهل كلما تراضى الطرفان على شيء يصير حلالاً ؟ لو كان الأمر كذلك لكان الزنا حلالاً : لأنهما طرفان قد تراضيا . وكل ذلك لا يتأتى - أي رضاء الطرفين - إلا في الأمور التي ليس فيها تشريع صدر عن المشرع الأعلى ، وهو الله الحيّ القيوم . إن الله قد فرض أمراً يقضي على التراضي بيني وبينك لأنه هو المسيطر ، وهو الذي حكم في الأمر ، فلا تراضي بيننا فيما يخالف ما شرع الله أو حكم فيه . وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا نجد أن التراضي الذي يدعونه مردود عليه . إنه " تراضٍ " باطل بالفحص الدقيق والبحث المنطقي . لماذا ؟ لأننا نقول إن التراضي إنما ينشأ بين اثنين لا يتعدى أمر ما تراضيا عليه إلى غيرهما ، أما إذا كان الأمر قد تعدى من تراضياً عليه إلى غيرهما فالتراضي باطل . فهب أن واحداً لا يملك شيئاً ، وواحداً آخر يملك ألفاً ، والذي يملك ألفاً هي ملكه ، وأدار بها عملاً من الأعمال ، وحين يدير صاحب الألف عملاً فالمطلوب له أجر عمله ليعيش من هذا الأجر . أما الذي لا يملك شيئاً إذا ما أراد أن يعمل مثلما عمل صاحب الألف ، فذهب إلى إنسان وأخذ منه ألفاً ليعمل عملاً كعمل صاحب الألف ، فيشترط من يعطيه هذه الألف من الأموال أن يزيده مائة حين السداد ، فيكون المطلوب من الذي اقترض هذه الألف أجر عمله كصاحب الألف الأول ومطلوب منه أيضاً أن يزيد على أجره تلك المائة المطلوبة لمن أقرضه بالربا . فمن أين يأتي من اقترض ألفاً بهذه المائة الزائدة ؟ إن سلعته لو كانت تساوي سلعة الآخر فإنه يخسر . وإن كانت سلعته أقل من سلعة الآخر فإنها تكسد وتبور . إذن فلا بد له من الاحتيال النكد ، وهذا الاحتيال هو أن يخلع على سلعته وصفاً شكلياً يساوي به سلعة الآخر ، ويعمد إلى إنقاص الجواهر الفعالة في صنعة سلعته ، فيحسب منها ما يوازي المائة المطلوب سدادها للمرابي . فن الذي سيدفع ذلك ؟ إنه المستهلك . إذن فالمستهلك قد أضير بهذا التراضي فهو الذي سيغرم لأنه هو الذي يدفع أخيراً قيمة قرض الرجل المتاجر بالسلعة وقيمة النسبة الربوية التي حددها المرابي . إذن فالعقد بين المقترض والمرابي حتى في عرفهم - عقد باطل رغم أن الاثنين - المقترض والمرابي - قد اعتبرا هذا العقد تراضياً . إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يشيع في الناس الرحمة والمودة . وأن يشيع في الناس التعاطف . إنه الحق - سبحانه - صاحب كل النعمة أراد أن يشيع في الناس أن يعرف كل صاحب نعمة في الدنيا أنه يجب عليه أن تكون نعمته متعدية إلى غيره ، فإن رآها المحروم علم أنه مستفيد منها ، فإذا كان مستفيداً منها فإنه لن ينظر إليها بحقد ، ولا أن ينظر إليها بحسد ، ولا يتمنى أن تزول لأن أمرها عائد إليه . ولكن إذا كان السائد هو أن يريد صاحب النعمة في الدنيا أن يأخذ بالاستحواذ على كل عائد نعمته ، ولا يراعي حق الله في مهمة النعمة ، ولا تتعدى هذه النعمة إلى غيره ، فالمحروم عندما يرى ذلك يتمنى أن تزول النعمة عن صاحبها وينظر إليها بحسد . ويشيع الحقد ومعه الضغينة ، ويجد الفساد فرصة كاملة للشيوع في المجتمع كله . إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسيطر على الاقتصاد عناصر ثلاثة : العنصر الأول : الرفد والعطاء الخالص ، فيجد الفقير المعدم غنياً يعطيه ، لا بقانون الحق المعلوم المفروض في الزكاة ، ولكن بقانون الحق غير المعلوم في الصدقة ، هذا هو الرفد . العنصر الثاني : يكون بحق الفرض وهو الزكاة . العنصر الثالث : هو بحق القرض وهو المداينة . إذن فأمور ثلاثة هي التي تسيطر على الاقتصاد الإسلامي : إما تطوع بصدقة ، وإما أداءٌ لمفروض من زكاة ، وإما مداينة بالقرض الحسن ، وذلك هو ما يمكن أن ينشأ عليه النظام الاقتصادي في الإسلام . ولننظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى حين عرض هذه المسألة وبشّع هيئة الذين يأكلون الربا بأنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه ويصرعه الشيطان من المس . لماذا ؟ لأن الحق قال فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَا } [ البقرة : 275 ] فهل الكلام في البيع ، أو الكلام في الربا ؟ إن الكلام في الربا . وكان المنطق يقتضي أن يقول : " الربا كالبيع " ، فما الذي جعلهم يعكسون الأمر ؟ إن النص القرآني هنا يوحي إلى التخبط حتى في القضية التي يريدون أن يحتجوا بها . كأنهم قالوا : ما دمت تريد أن تحرم الربا ، فالبيع مثل الربا ، وعليك تحريم البيع أيضاً . وكان القياس أن يقولوا : " إنما الربا مثل البيع " ، لكن الحق سبحانه أراد أن يوضح لنا تخبطهم فجاء على لسانهم : إنما البيع مثل الربا فإن كنتم قد حرمتم الربا فحرموا البيع ، وإن كنتم قد حللتم البيع فحللوا الربا . إنهم يريدون قياساً إما بالطرد ، وإما بالعكس . فقال الله القول الفصل الحاسم : { وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ … } [ البقرة : 275 ] وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال : " لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله " . إنها موعظة من الله جاءت ، الموعظة إن كانت من غير مستفيد منها ، فالمنطق أن تُقبل - بضم التاء - أما الموعظة التي يُشَك فيها ، فهي الموعظة التي تعود على الواعظ بشيء ما . فإذا كانت الموعظة قد جاءت ممن لا يستفيد بهذه الموعظة ، فهذه حيثية قبولها { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ } [ البقرة : 275 ] ، ولنر كلمة " ربه " حينما تأتي هنا فلنفهم منها أن المقصود بها الحق سبحانه الذي تولى تربيتكم ، ومتولي التربية خلقاً بإيجاد ما يستبقي الحياة ، وإيجاد ما يستبقي النوع ، ومحافظة على كل شيء بتسخير كل شيء لك أيها الإنسان ، فيجب أن تكون أيها الإنسان مهذباً أمام ربك فلا توقع نفسك في اتهام الرب الخالق في شبهة الاستفادة من تلك الموعظة - معاذ الله - . لماذا ؟ لأن الخالق رب ، وما دام الخالق رباً فهو المتولي تربيتكم ، فإياك أيها الإنسان أن تتأبَّى على عظة المُربّي . { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ } [ البقرة : 275 ] ومعنى ذلك أن الأمر لن يكون بأثر رجعي فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم تلك هي الرحمة ، لماذا ؟ لأنه من الجائز أن يكون المرابي قد رتب حياته ترتيباً على ما كان يناله من ربا قبل التحريم ، فإذا كان الأمر كذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعفو عما قد سلف . وعلى المرابي أن يبدأ حياته في الوعاء الاقتصادي الجديد . تلك هي عظمة التشريع الرباني { فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [ البقرة : 275 ] أي أن له ما سبق وما مضى قبل تحريم الربا . وتفيد كلمة " وأمره إلى الله " أن الله سبحانه وتعالى حينما يعفو عما سلف فله طلاقة الحرية في أن يقنن ما شاء ، فيجب أن تتعلق دائماً باستدامة الفضل من الله . " وأمره إلى الله " إن مثل هذا الإنسان ربما قال : سأنهار اقتصادياً ومركزي سيتزعزع ، وسأصبح كذا وكذا . لا . اجعل سندك في الله ، ففي الله عوض عن كل فائت ، هو سبحانه لا يريد أن يزلزل مراكز الناس ، ولكن يريد أن يقول لهم : إنني إن سلبتكم نعمتي فاجعلوا أنفسكم في حضانة المنعم بالنعمة . وما دمت قد جعلت نفسك في حضانة المنعم بالنعمة ، إذن فالنعمة لا شيء لأن المنعم عوض عن هذه النعمة ، والربا من السبع الموبقات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باجتنابها حيث قال : " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " { وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ } [ البقرة : 275 ] أي عاد بعد الموعظة ماذا يكون أمره ؟ { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 275 ] . وكان يكفي أن يقول عنهم : إنهم { أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 275 ] فلعل واحد يكون مؤمناً وبعد ذلك عاد إلى معصية ، فيأخذ حظه من النار . إنما قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 275 ] يدل على أنه خرج عن دائرة الإيمان . وافهم السابق جيداً لتفهم التذييل اللاحق لأن هنا أمرين : هنا ربا حرمه الله ، وأناس يريدون أن يُحلّلوا الربا عندما قالوا : { إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَا } [ البقرة : 275 ] ، فإن عدت إلى الربا حاكماً بحرمته فأنت مؤمن عاصٍ تدخل النار . إنما إن عدت إلى ما سلف من المناقشة في التحريم ، وقلت : البيع مثل الربا ، وناقشت في حرمة الربا وأردت أن تحلله كالبيع فقد خرجت عن دين الإسلام . وحين تخرج عن دين الإسلام فلك الخلود في النار . ومن هنا يجب أن نلفت الذين يقولون بالربا ، ونقول لهم : قولوا : إن الربا حرام ، ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى نبطله ونتركه ، وعليكم أن تجاهدوا أنفسكم على الخروج منه حتى لا تتعرضوا لحرب الله ورسوله . إنهم باعتقادهم أن الربا حرام يكونون عاصين فقط ، أما أن يحاولوا تبرير الربا ويحللوه فسيدخلون في دائرة أخرى شر من ذلك ، وهي دائرة الكفر والعياذ بالله . وقد عرفنا أن آدم عليه السلام عصى ربه ، وأكل من الشجرة ، وإبليس عصى ربه ، فلما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، أما إبليس فقد طرده الله ، ولماذا طرد الله إبليس وأحل عليه اللعنة ؟ لأن آدم أقر بالذنب وقال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] . لقد اعترف آدم : حكمك يا رب حكم حق ، ولكني ظلمت نفسي . ولكن إبليس عارض في الأمر وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] ، فكأنه رد الأمر على الآمر . وبعد ذلك حين بين الله الحكم في الربا ، وبين أن من انتهى له ما سلف ، فماذا عن الذي يعود ؟ { وَمَنْ عَادَ } [ البقرة : 275 ] وهي المقابل { فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 275 ] ، يريد سبحانه أن يقول : إياكم أن يخدعكم الربا بلفظه ، فالألفاظ تخدع البشر لأنكم سميتموه " ربا " بالسطحية الناظرة : لأن الربا هو الزيادة ، والزكاة تنقص ، فالمائة في الربا تكون مائة وعشرة مثلاً حسب سعر الفائدة ، وفي الزكاة تصبح المائة 97 . 5 ، في الأموال وعروض التجارة ، وتختلف عن ذلك في الزروع وغيرها ، وفي ظاهر الأمر أن الربا زاد ، والزكاة أنقصت ، ولكن هذا النقصان وتلك الزيادة هي في اصطلاحاتكم في أعرافكم . والحق سبحانه وتعالى يمحق الزائد ، ويُنَمّي الناقص فهو سبحانه يقول : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ … } .