Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 280-280)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

و { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] حكم بأن للدائن رأس المال ، ولكن هب أنّ المدين ذو عسرة ، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية ، لقد درسوها صناعة ، ولكنها عزت عليهم ملكة لأن اللغة ليست صناعة فقط ، اللغة طبع ، واللغة ملكة ، اللغة وجدان ، يقولون : إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته . فمثلاً جاءوا بهذه الآية : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 280 ] . قال بعض المستشرقين : نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر " كان " في قوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ، صحيح لا نجد خبر " كان " ، ولكن الملكة العربية ليست عنده لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن " كان " تحتاج إلى اسم وإلى خبر ، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة ، كان يجب أن يفهم أيضاً معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر ، وتكتفي بالمرفوع ، وهذه تحتاج إلى شرح بسيط . إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن ، وكلمة " كان " إن سمعتها دلت على وجود وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها ، كان مجتهداً ؟ كان كسولاً ؟ مثلاً فهي تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة ، ومعنى ذلك أن " كان " دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص ، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه إلا إذا قيد ، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى ، ويظهر ، فلا بد أن تأتيها بخبر ، كأن تقول : كان زيد مجتهداً ، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد . إذن فـ كان هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص ، فإذا لم يكن الأمر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون كان تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول : عاد الغائب فكان الفرح أي وجد ، أو أشرقت الشمس فكان النور ، والشاعر يقول : @ وكـانت وليـس الصـبح فيـها بأبيـض وأضـحت وليـس اللـيـل فيـها بأسـود @@ فقوله { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] أي فإن وَجد ذو عسرة … أي إن وُجِدَ إنسان ليس عنده قدرة على السداد ، " فنظرة " من الدائن " إلى ميسرة " أي : إلى أن يتيسر ، ويكون رأس المال في هذه الحالة " قرضاً حسناً " ، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثواباً . ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة لأن الصدقة حين تعطيها فقد قطعت أمل نفسك منها ، ولا تشغل بها ، وتأخذ ثواباً على ذلك دفعة واحدة ، لكن القرض حين تعطيه فقلبك يكون متعلقاً به ، فكلما يكون التعلق به شديداً ، ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت تأخذ ثواباً . لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضاً حسناً والمقترض معذور بحق لأن فيه فرقاً بين معذور بحق ، ومعذور بباطل ، المعذور بحق هو الذي يحاول جاهداً أن يسدد دينه ، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك ، أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم . ولذلك جرب نفسك ، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه قادر على السداد ولم يسدد ، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن يسدد ، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك . وهؤلاء لا يطول بهم الدَّيْنُ طويلاً لأن الرسول حكم في هذه القضية حكماً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " . فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤديه فإن الله ييسر له سبيل الأداء ، ومن أخذها يريد إتلافها ، فالله لا ييسر له أن يسدد لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه ، وهذه حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث ، فقد مات رجل عليه دين ، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مدين قال لأصحابه : صلوا على أخيكم . إذن فهو لم يصل ، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا ، لماذا لم يصل ؟ لأنه قال قضية سابقة : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه " ، ما دام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع أصحابه من الصلاة عليه . والرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول : " مَنْ أَنْظَر معسراً أَوْ وَضَعَ عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " . ومعنى " أنظر " أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه ، فلا يحبسه في دَيْنِه ، فلا يطارده ، وإن تسامى في اليقين الإيماني ، يقول له : " اذهب ، الله يعوض عليَّ وعليك " وتنتهي المسألة ، ولذلك يقول الحق : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 280 ] والثمرة هي حسن الجزاء من الله . فإما أن تنظر وتؤخر ، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين ، وأنت حر في أن تفعل ما تشاء . فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية . ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء ، وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] . وتكلم طويلاً عن النفقة . والنفقة تشمل ما يكون مفروضاً عليك من زكاة ، وما تتطوع به أنت . والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقاً للفقير ، ولكنه حق غير معلوم ، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱلَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 15 - 17 ] . أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلاً من الليل ؟ لا ، إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام ، ثم يقوم لصلاة الفجر ، هذا ما يطلبه الإسلام . لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله . { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱلَّيلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 15 - 18 ] . هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر ؟ لا ، إن المسلم عليه أن يؤدي الفروض ، ولكن إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الإحسان فعليه أن يعرف الطريق : { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 18 ] . والكلام هنا في مقام الإحسان . ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقام : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] . إن الله سبحانه قد حدد في أموال مَنْ يدخل في مقام الإحسان حقاً للسائل والمحروم ، ولم يحدد الله قيمة هذا الحق أو لونه . هل هو معلوم أو غير معلوم . لكن حين تكلم الله عن المؤمنين قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24 - 25 ] . وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الإحسان حقاً للسائل والمحروم ، لكن في أموال صاحب الإيمان حق معلوم وهو الزكاة . ومقام الإحسان يعلو مقام الإيمان لأن الحق في مال المؤمن معلوم ، أما في مقام الإحسان ، فإن في مالهم حقاً للإحسان إلى الفقير وإن لم يكن معلوماً ، أي لم يحدد . وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة - ما دامت حقاً للفقير عند الغني - فإن منع الغني ما قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني ، لأنه أخذ حق الفقير . ونصاب السرقة ربع دينار ذهباً ، فيبني الإسلام قضاياه الاجتماعية إما على النفقة غير المفروضة وإما على النفقة المفروضة . فإذا ما شحّت نفوس الناس ، ولم تستطع أن تتبرع بالقدر الزائد على المفروض ، وتمكن حب مالها في نفسها تمكناً قوياً بحيث لا تتنازل عنه يقول الله سبحانه لكل منهم : أنت لم تتنازل عن مالك ، وأنا حرمت الربا ، فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساساً سليماً ؟ سنحتفظ لك بمالك ونمنع عنك فائدة الربا ، وهكذا نلتقي في منتصف الطريق ، لا أخذنا مالك ، ولا أخذت من غيرك الزائد على هذا المال . وشرح الحق سبحانه آية الديْن ، وأخذت هذه الآية أطول حيز في حجم آيات القرآن ، لماذا ؟ . لأن على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع الاقتصادية عند من لا يجد مورداً مالياً يُسيّر به حركة حياته . وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعاً تقنينياً جافاً جامداً ، وإنما وضعها وضعاً وجدانياً . أي مزج التقنين بالوجدان ، مزج الحق جمود القانون بروح الإسلام ، فلم يجعلها عملية جافة . والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافاً ، فمثال ذلك : من قتل يقتل ، وغير ذلك . لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلاف ، وهي خلافات الدم ، فقال سبحانه : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ … } [ البقرة : 178 ] . والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن ، يقول : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ … } .