Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 285-285)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [ البقرة : 285 ] . وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة { وَٱلْمُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 285 ] . وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] . أي أن كلا من الرسول والمؤمنين آمنوا بالله . إن الإيمان الأول هو إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان أيضاً من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في " آمن " بين الرسول والمؤمنين . وبعد ذلك يجمعهما الله - الرسول والمؤمنين - في إيمان واحد ، وهذا أمر طبيعي ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بالله أولاً ، وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنا بالله وبه ثم امتزج الإيمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول هو إيماننا ، وهذا ما يوضحه القول الحق : { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ } [ البقرة : 285 ] . إذن فالرسول في مرحلته الأولى سبق بالإيمان بالله ، والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بالله أن يؤمن بأنه رسول الله ، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم : أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول : أشهد أني رسول الله … إنّه يقولها بفرحة . ومثال ذلك ما روي " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاماً فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئاً فجعلت أستنظره إلى قابل " أي أطلب منه أن يمهلني إلى عام ثان " فيأبى فَأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه : امشوا نستنظر لجابر من اليهودي فجاءوني في نخلي ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول اليهودي أبا القاسم ، لا أنظره فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى ، فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال : أين عريشك يا جابر فأخبرته ، فقال : افرش لي فيه ففرشته ، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ، ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه ، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر ، جذّ واقض فوقف في الجذاذ فَجذذْتُ منها ما قضيته ، وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال : أشهد أني رسول الله " . والحق سبحانه وتعالى يشهد أن لا إله إلا هو : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] . إذن فالله يشهد أن لا إله إلا هو ، ورسول الله يشهد أن لا إله إلا الله ، ويشهد أيضاً أنه رسول الله ، يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين الإيماني ، ولذلك يقول الحق عن ذلك : { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] . والحق يأتي بـ " كُلٌّ " بالتنوين أي كل من الرسول والمؤمنين . ويورد لنا سبحانه عناصر الإيمان : { كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] . ونحن نعرف أن الإيمان بالله وكل ما يتعلق بالإيمان لابد أن يكون غيباً فلا يوجد إيمان بمحس أبداً . فالأشياء المحسة لا يدخلها إيمان لأنها مشهودة . وعناصر الإيمان في هذه الآية هي : إيمان بالله وهو غيب . وإيمان بالملائكة وهي غيب من خلق الله ، ولو لم يبلغنا الله أن له خلقاً هم الملائكة لما عرفنا ، إن الحق أخبرنا أنه خلق الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم غيب ، ولولا ذلك لما عرفنا أمر الملائكة ، وإيمان بالكتب والرسل . وقد يقول قائل : هل الرسل غيب ؟ وهل الكتب السماوية غيب ؟ إن الرسل بشر ، والكتب مشهودة . ولمثل هذا القائل نقول : لا ، لا يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول ، وهذا يعني أن عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه الله ويؤمن به المؤمنون . وكيف نؤمن بكل الرسل ولا نفرق بين أحد منهم ؟ . ونقول : إن الرسل المبلغين عن الله إنما يبلغون منهجاً عن الله فيه العقائد التي تختلف باختلاف العصور ، وفيه الأحكام التي تختلف باختلاف العصور ومواقع القضايا فيها . إذن فالأصل العقدي في كل الرسالات أمر واحد ، ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف لأن أقضية الحياة تختلف ، وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب ، لكن الأصل واحد والبلاغ من خالق لا إله إلا هو ، ولذلك يأتي القول الحكيم : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فنحن لا نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن الله ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية الاعتقاد ، وما تختلف من ناحية الأحكام التي تناسب أقضية كل عصر . وبعد ذلك يقول الحق { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال بالمطلوب ، وأن يمتثل المؤمن أمراً ويمتثل المؤمن نهياً في كل أمر يتعلق بحركة الكون . فالذين يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون : إن الدين يهتم بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج . وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين . لهؤلاء نقول : أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة ، وإنما جاء ليعطي الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية ، لكن الدين الإسلامي جاء خاتماً للأديان منظماً لحركة الحياة ، فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة . ونحن حين نقرأ القرآن الكريم ، نجد القول الحكيم : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ] . إذن الحق سبحانه يأمر المؤمنين ويخرجهم من حركة من حركات الحياة إلى حركة أخرى ، فهو لم يأخذهم من فراغ ، إنما ناداهم لإعلان الولاء الجماعي ، وهو إعلان من كل مؤمن بالعبودية لله أمام بقية المخلوقات . وبعد أن يقضي المؤمنون الصلاة ماذا يقول لهم الحق سبحانه ؟ يقول لهم : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] . إذن ، فالانتشار في الأرض هو حركة في الحياة ، تماماً كما كان النداء إلى السعي لذكر الله . وهكذا تكون كل حركة في الحياة داخلة في إطار الطاعة ، إذن " سمعنا وأطعنا " أي سمعنا كل المنهج ، ولكن نحن حين نسمع المنهج ، وحين نطيع فهل لنا قدرة على أن نطيع كل المنهج أو أن لنا هفوات ؟ ولأن أحداً لن يُتِم كل الطاعة ولنا هفوات جاء قوله الحق : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِير } [ البقرة : 285 ] فالغاية والنهاية كلها عائدة إليك ، وأنت الإله الحق ، لذلك فنحن العباد نطلب منك المغفرة حتى نلقاك ، ونحن آمنون على أن رحمتك سبقت غضبك . ويقول الحق : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا … } .