Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 28-28)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة " كيف " في اللغة للسؤال عن الحال ، والحق سبحانه وتعالى أوردها في هذه الآية الكريمة ليس بغرض الاستفهام ، ولكن لطلب تفسير أمر عجيب ما كان يجب أن يحدث . وبعد كل ما رواه الحق سبحانه وتعالى في آيات سابقة من أدلة دامغة عن خلق السماوات والأرض وخلق الناس … أدلة لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يخطئها … فكيف بعد هذه الأدلة الواضحة تكفرون بالله ؟ … كفركم لا حجة لكم فيه ولا منطق … والسؤال يكون مرة للتوبيخ … كأن تقول لرجل : كيف تسبُّ أباك ؟ أو للتعجب من شيء قد فعله وما كان يجب أن يفعله ، وكلاهما متلاقيان ، سواء أكان القصد التوبيخ أو التعجب ، فالقصد واحد . فهذا ما كان يجب أن يحدث منك . ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بأدلة أخرى لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يكذِّب بها ، فيقول جل جلاله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ … } [ البقرة : 28 ] . وهكذا ينتقل الكلام إلى أصل الحياة والموت ، فبعد أن بَيَّنَ الحق سبحانه وتعالى ماذا يفعل الكافرون والفاسقون والمنافقون من إفساد في الأرض … وقَطْع لما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل … صعد الجدل إلى حديث عن الحياة والموت . وقوله تعالى " كنتم أمواتاً فأحياكم " قضية لا تحتمل الجدل … ربما استطاعوا المجادلة في مسألة عدم اتباع المنهج ، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل . ولكن قضية الحياة والموت لا يمكن لأحد أن يجادل فيها ، فالله سبحانه وتعالى خلقنا من عدم ، ولم يدع أحد قط أنه خلق الناس أو خلق نفسه ، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس إن الذي خلقكم هو الله … لم يستطع أحد أن يكذِّبه ولن يستطيع … ذلك أننا كنا فعلاً غير موجودين في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجدنا وأعطانا الحياة . وقوله تعالى : " ثم يميتكم " … فإن أحداً لا يشك في أنه سيموت … الموت مُقَّدر على الناس جميعاً ، والخلق من العدم واقع بالدليل ، والموت واقع بالحس والمشاهدة . إن قضية الموت هي سبيلنا لمواجهة أي ملحد ، فإن قالوا إن العقل كافٍ لإدارة الحياة ، وأنه لا يوجد شيء اسمه غيب … نقول : الذي يتحكم في الخلق إيجاداً ، هو الذي يتحكم فيه موتاً … والحياة الدنيا هي مرحلة بين قوسين : القوس الأول هو أن الله يخلقنا ويوجدنا … وتمضي رحلة الحياة إلى القوس الثاني … الذي تخمد فيه بشريتنا وتتوقف حياتنا ، وهو الموت . أي : أننا في رحلة الحياة من الله وإليه . إذن : فحركة الحياة الدنيا هي بداية من الله بالخلق ، ونهاية بالموت . إنهم عندما تحدثوا عن أطفال الأنابيب ، وهي عملية لعلاج العقم أكثر من أي شيء آخر ، ولكنهم صوروها تصويراً جاهلياً ، وكل ما يحدث أنهم يأخذون بويضة من رحم الأم التي يكون المهبل عندها مسدوداً ، أو لا يسمح بالتلقيح الطبيعي … يأخذون هذه البويضة من رحم الأم ، ويُخصِّبونها بالحيوانات المنوية للزوج ، ثم يزرعونها في رحم الأم . إنهم أخذوا من خلق الله وهي بويضة الأم والحيوان المنوي من الرجل ، وكل ما يفعلونه هو عملية التلقيح ، ومع ذلك يسمونه أطفال الأنابيب … كأن الأنبوبة يمكن أن تخلق طفلاً ! ! والحقيقة غير ذلك ، فبويضة الأم ، والحيوان المنوي للرجل هما من خلق الله ، وهم لم يخلقوا شيئاً … إننا نقول لهم : إذا كنتم تملكون الموت والحياة فامنعوا إنساناً واحداً أن يموت بدلاً من إنفاق ألوف الجنيهات في معالجة عقم قد ينجح أو لا ينجح … ابقوا واحداً على قيد الحياة … ولن يستطيعوا . إن الموت أمر حسي مشاهد ، ولذلك فمن رحمة الله بالعقل البشري بالنسبة للأحداث الغيبية أن الله سبحانه وتعالى قرَّبها لنا بشيء مشاهد … كيف ؟ عندما ينظر الإنسان إلى نفسه وهو حي … لا يعرف كيف أحياه الله وكيف خلقه … الله سبحانه وتعالى ذكر لنا غيب الخلق في القرآن الكريم ، فقال جل جلاله إنه خلق الإنسان من تراب ومن طين ، ومن حمأ مسنون ، ثم نفخ فيه من روحه … واقرأ قول الحق سبحانه : { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ … } [ الحج : 5 ] . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] . وقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] . وقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 72 ] . فالحق تبارك وتعالى أخبرنا عن مرحلة في الخلق لم نشهدها ، ولكن الموت شيء مشهود لنا جميعاً … وما دام مشهوداً لنا ، يأتي الحق سبحانه وتعالى به كدليل على مراحل الخلق التي لم نشهدها … فالموت نَقْصٌ للحياة ، والحياة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأطوارها ، ولكنها غيب لم نشهده . ولكن الذي خلق قال : أنا خلقتك من تراب … من طين . من حمأ مسنون . من صلصال كالفخار … فالماء وضع على تراب فأصبح طيناً … والطين تركناه فتغير لونه وأصبح صلصالا … الصلصال … جف فأصبح حمأ مسنونا ، ثم نحته في صورة إنسان ونفخ الحق سبحانه وتعالى فيه الروح فأصبح بشراً … ثم يأتي الموت وهو نقض للحياة ، ونقض كل شيء يأتي على عكس بنائه . بناء العمارة يبدأ من أسفل إلى أعلى ، وهدمها يبدأ من أعلى إلى أسفل … ولذلك فإن آخر مرحلة من رحلة ما … هي أول خطوة في طريق العودة ، فإذا كنت مسافراً إلى الإسكندرية . . فأول مكان في طريق العودة هو آخر مكان وصلت إليه . أول شيء يخرج من الجسد هو الروح وهو آخر ما دخل فيه … ثم بعد ذلك يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون ، ثم يتعفن فيصبح كالصلصال ، ثم يتبخر الماء الذي فيه فيعود تراباً … وهكذا يكون الموت نقض صورة الحياة … متفقاً مع المراحل التي بينها لنا الحق سبحانه وتعالى . وقوله تعالى : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] … أي : أن الله تبارك وتعالى يبعثكم ليحاسبكم … لقد حاول الكفار والملحدون وأصحاب الفلسفة المادية أن ينكروا قضية البعث … وهم في هذا لم يأتوا بجديد ، بل جاءوا بالكلام نفسه الذي قاله أصحاب الجاهلية الأولى … واقرأ قوله تعالى عما يقوله أصحاب الجاهلية الأولى : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } [ الجاثية : 24 ] . وأمنية الكافر والمسرف على نفسه ألا يكون هناك بعث أو حساب ، والذين يتعجبون من ذلك نقول لهم : أن الله سبحانه وتعالى الذي أوجدكم من عدم يستطيع أن يعيدكم وقد كنتم موجودين … يقول جل جلاله : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الروم : 27 ] . فإيجاد ما كان موجوداً أسهل من الإيجاد من عدم على غير مثال موجود ، والله سبحانه وتعالى يرد على الكفار فيقول سبحانه : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 - 79 ] . وهكذا ، فإن البعث أهون على الله من بداية الخلق ، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى في كتاب مبين … وما أخذته الأرض من جسد الإنسان ترده يوم القيامة ليعود من جديد . وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الإنسان … واقرأ قوله تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . وقول الله سبحانه وتعالى : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] … هو اطمئنان لمَنْ آمن … وما دمنا إليه نرجع ومنه بدأنا . فالحياة بدايتها من الله ونهايتها إلى الله ، فلنجعلها هي نفسها لله … ولابد أن نلتفت إلى أن الله تبارك وتعالى أخفى عنا الموت زماناً ومكاناً وسبباً وعمراً … لم يخفه ليحجبه ، وإنما أخفاه حتى نتوقعه في كل لحظة … وهذا إعلام واسع بالموت حتى يسرع الناس إلى العمل الصالح ، وإلى المثوبة . لأنه لا يوجد عمر متيقن في الدنيا … فلا الصغير آمن على عمره ، ولا الشاب آمن على عمره ، ولا الكهل آمن على عمره … ولذلك يجب أن يسارع كل منا في الخيرات حتى لا يفاجئه الموت ، فيموت وهو عاصٍ … ونلاحظ أن قصة الحياة جاء الله بها في آية واحدة . والرجوع إلى الله - وهو يقين بالنسبة للمؤمنين - يلزمهم بالمنهج ، فيعيشون من حلال . والتزامهم هذا هو الذي يقودهم إلى طريق الجنة . ويطمئنهم على أولادهم بعد أن يرحل الآباء من الدنيا . فعمل الرجل الصالح ينعكس على أولاده من بعده . واقرأ قوله سبحانه وتعالى : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . إذن : فصاحب الالتزام بالمنهج ، يطمئن إلى لقاء ربه ويطمئن إلى جزائه ، والذي لا يؤمن بالآخرة أخذ من الله الحياة فأفناها فيما لا ينفع . ثم بعد ذلك لا يجد شيئاً إلا الحساب والنار … واقرأ قوله تبارك وتعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . أي أن الكافر سيفاجأ في الآخرة بالله الذي لم يكن في باله أنه سيحاسبه على ما فعل … وقوله تعالى " إليه ترجعون " تُقْرأُ قراءتين . بضمِّ على التاء . ومرة بفتحها . الأولى معناها . أننا نُجْبَرُ على الرجوع ، فلا يكون الرجوع إلى الله تعالى بإرادتنا ، وهذا ينطبق على الكفار الذين يتمنون عدم الرجوع إلى الله ، أما الثانية " ترجعون " فهذه فيها إرادة . وهي تنطبق على المؤمنين لأنهم يتمنون الرجوع إلى الله .