Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يذكِّرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه هو الذي خلق ما في الأرض جميعاً ، وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى : { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] لتلفتنا إلى أن ما في الأرض كله ملك لله جل جلاله ، وأننا لا نملك شيئاً إلا ملكية مؤقتة . وأن ما لنا في الدنيا سيصير لغيرنا . وهكذا . والحق سبحانه وتعالى حين خلق الحياة وقال { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ … } [ البقرة : 28 ] كأن الحياة تحتاج إلى إمداد من الخالق للمخلوق حتى يمكن أن تستمر ، فلابد لكي تستمر الحياة أن يستمر الإمداد بالنعم ، ولكن النعم تظل طوال فترة الحياة ، وعند الموت تنتهي علاقة الإنسان بنعم الدنيا ، ولذلك لابد أن يتنبه الإنسان إلى أن الأشياء مُسخَّرة له في الدنيا لتخدمه . وأن هذا التسخير ليس بقدرات أحد ، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى . والإنسان لا يدري كيف تم الخلق ، ولا ما هي مراحله إلا أن يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها . فهو جل جلاله يقول : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . وما داموا لم يشهدوا خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، فلا بد أن نأخذ ذلك عن الله ما ينبئنا به الله عن خلق السماوات والأرض وعن خلقنا هو الحقيقة ، وما يأتينا عن غير الله سبحانه وتعالى فهو ضلال وزيف ، ونحن الآن نجد بحوثاً كثيرة عن كيفية السماوات والأرض وخلق الإنسان ، وكلها لن تصل إلى حقيقة ، بل ستظل نظريات بلا دليل . ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . أي : أن هناك مَنْ سيأتي ويضل ، ويقول : هكذا تم خلق السماوات والأرض ، وهكذا خلق الإنسان ، هؤلاء المضلون الذين جاءوا بأشياء هي من علم الله وحده ، جاءوا تثبيتاً لمنهج الإيمان ، فلو لم يأت هؤلاء المضلون ، ولو لم يقولوا : خُلِقت الأرض بطريقة كذا ، والسماء بطريقة كذا ، لقلنا : إن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه العزيز أن هناك مَنْ سيأتي ويُضِلّ في خلق الكون وخلق الإنسان ، ولكن كونهم أتوا فهذا دليل على صدق القرآن الذي أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا بقرون . والاستفادة من الشيء لا تقتضي معرفة أسراره … فنحن مثلاً نستخدم الكهرباء مع أننا لا نعرف ما هي ؟ وكذلك نعيش على الأرض ونستفيد بكل ظواهرها وكل ما سخره الله لنا . وعدم علمنا بسر الخلق والإيجاد لا يحرمنا هذه الفائدة ، فهو علم لا ينفع وجهل لا يضر . والكون مسخر لخدمة الإنسان ، والتسخير معناه التذليل ، ولا تتمرد ظواهر الكون على الإنسان . وإذا كانت هناك ظواهر في الكون تتمرد بقَدَر الله ، مثل الفيضانات والبراكين والكوارث الطبيعية ، نقول : إن ذلك يحدث ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن كل ما في الكون لا يخدمنا بذاتنا ، ولا بسيطرتنا عليه ، وإنما يخدمنا بأمر الله له ، وإلا لو كانت المخلوقات تخدمك بذاتك . فاقدر عليها حينما تتمرد على خدمتك ، فكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله ، حتى الأسباب والمسببات خاضعة أيضاً لطلاقة القدرة الإلهية ، فالأسباب والمسببات في الكون لا تخرج عن إرادة الله . لذلك إذا تمرد الماء بالطوفان ، وتمردت الرياح بالعاصفة ، وتمردت الأرض بالزلازل والبراكين . فما ذلك إلا ليعرف الإنسان أنه ليس بقدرته أن يسيطر على الكون الذي يعيش فيه . واقرأ قوله سبحانه وتعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] . والإنسان عاجز عن أن يُخْضع حيواناً إلا بتذليل الله له ، ومن العجيب أنك ترى الحيوانات تدرك ما لا يدركه الإنسان في الكون ، فهي تحس بالزلزال قبل أن يقع ، وتخرج من مكان الزلزال هاربة . بينما الإنسان لا يستطيع بعقله أن يفهم ما سيحدث . والحق سبحانه وتعالى في قوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً … } [ البقرة : 29 ] . يستوعب كل أجناس الأرض ، ولذلك فإن الإنسان لا يستطيع أن يوجد شيئاً إلا من موجود . أي أن الإنسان لم يستحدث شيئاً في الكون ، فأنت إذا أخذت حبة القمح ، من أين جئنا بها ؟ من محصول العام الماضي ، ومحصول العالم الماضي من أين جاء ؟ من محصول العام الذي قبله . وهكذا يظل تسلسل الأشياء حتى تصل إلى حبة القمح الأولى . من أين جاءت ؟ جاءت بالخلق المباشر من الله . وكذلك كل ثمار الأرض إذا أعدتها للثمرة الأولى فهي بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى ، فإذا حاولت أن تصل إلى أصل وجود الإنسان ، ستجد بالمنطق والعقل … أن بداية الخلق هي من ذكر وأنثى ، خُلقا بالخلق المباشر من الله ، لأنك أنت من أبيك ، وأبوك من جدك ، وجدك من أبيه ، وهكذا تمضي حتى تصل إلى خلق الإنسان الأول . فنجد أنه لا بد أن يكون خلقاً مباشراً من الله سبحانه وتعالى ، وما ينطبق على الإنسان ينطبق على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد ، فكل شيء إذا رددته لأصله تجد أنه لابد أن يبدأ بخلق مباشر من الله سبحانه وتعالى . بعض الناس يتساءل عن الرقي والحضارة وهذه الاختراعات الجديدة . أليس للإنسان فيها خلق ؟ … نقول فيها خلق من موجود . والله سبحانه وتعالى كشف من علمه للبشر ما يستطيعون باستخدام المواد التي خلقها الله في الأرض أن يرتقوا ويصنعوا أشياء جديدة . ولكننا لم نجد ولم نسمع عن إنسان خلق مادة من عدم . الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ما في هذا الكون من عدم . ثم بعد ذلك تكاثرت المخلوقات بقوانين سخرها الله سبحانه وتعالى لها . ولكن كل هذا التطور راجع إلى أن الله خلق المخلوقات وأعطاها خاصية التناسل والتزاوج لتستمر الحياة جيلاً بعد جيل ، وكل خلق الله الذي تراه في الكون الآن قد وضع الله سبحانه وتعالى فيه من قوانين الأسباب ما يعطيه استمرارية الحياة من جيل إلى جيل حتى ينتهي الكون . فإذا قال لك إنسان : أنا أزرع بذكائي وعلمي . فقل له : أنت تأتي بالبذرة التي خلقها الله ، وتضعها في الأرض المخلوقة لله ، ويُنْزِلُ الله سبحانه وتعالى الماء عليها من السماء ، وتنبت بقدرة الله الذي وضع فيها غذاءها وطريقة إنباتها . إذن : فكل ما يحدث أنك تحرث الأرض ، وترمي البذرة . يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] . صحيح أن الإنسان يقوم بحرث الأرض ورمي البذرة ، وربما تعهد الزرع بالعناية والري ، ولكن ليس في كل ما يفعله مهمة خلق ، بل إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء ، ولو كنت تزرع بقدرتك فأت ببذرة من غير خلق الله ، وأرض لم يخلقها الله ، وماء لم ينزله الله من السماء . وطبعاً لن تستطيع ، ولكن ما هو مصدر الأشياء التي استحدثت ؟ نقول : إن هناك فرقاً بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل … فالنخلة مثلاً حين كانت موجودة بالقوة ، كانت نواة ، ثم زرعت فأصبحت موجودة بالفعل . وأنت لا عمل لك في الحالتين فلا أنت بقوتك خلقت النواة - التي هي البذرة - ولا أنت بفعلك جعلت النواة تكبر لتصير نخلة بالفعل . على أن هناك أشياء مطمورة في الكون خلقها الله سبحانه وتعالى مع بداية الخلق ، ثم تركها مطمورة في الكون حتى كشفها الله لمَنْ يبحث عن أسراره في كونه . وكل كشف له ميلاد . إذا أخذنا مثلاً ما تحت الثرى ، أو الكنوز الموجودة تحت سطح الأرض . لقد ظلت مطمورة حتى هدى الله الإنسان إليها ، وعلَّمَه كيف يستخرجها . فالإنسان لم يخترع مثلاً أو يوجد البترول أو المعادن . ولكنها كلها كانت مطمورة في الكون حتى جاء الوقت الذي يجب أن تؤدي فيه دورها في الحياة . فدَلَّنا الحق عليها ، فليس معنى أن الشيء كان غائباً عنا أنه لم يكن موجوداً ، أو أنه وُجِد لحظة اكتشافنا له . فالشيء الحادث الآن ، والشيء الذي سيحدث بعد سنوات … خلق الله سبحانه وتعالى كل عناصره ، وأودعها في الأرض لحظة الخلق . والإنسان بما يكشف الله له من علم يستطيع تركيب هذه العناصر ، ولكنه لا يستطيع خلقها أو إيجادها . والحق سبحانه وتعالى يقول : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ … } [ البقرة : 29 ] . حينما يقول الله جل جلاله : " استوى " … يجب أن نفهم كل شيء متعلق بذات الله على أنه سبحانه ليس كمثله شيء . فالله استوى ، والملوك تستوي على عروشها ، وأنت تستوي على كرسيك . ولكن لأننا محكومون بقضية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . لابد أن نعرف أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، والله حي ، وأنت حي ، هل حياتك كحياته ؟ والله سبحانه وتعالى يعلم وأنت لا تعلم . هل علمك كعلمه ؟ والله سبحانه وتعالى يقدر . وأنت تقدر . هل قدرتك كقدرته ، طبعا لا . فعندما تأتي إلى " استوى " فلا تحاول أن تفهمها أبداً بالمفهوم البشري … فالله سبحانه وتعالى يعلم ما في الأرض وما في السماء . وهو سبحانه يعلم المكان بكل ذراته ، والموجودين في هذا المكان أو المكين بكل ذراته . وأنت تعرف ظاهر الأمر … والله سبحانه وتعالى يعلم غيب السماوات والأرض حتى يوم القيامة ، وبعد يوم القيامة . إذن : فهو جل جلاله ليس كمثله شيء . ولا يمكن أن تحيط أنت بعقلك بفعل يتعلق بذات الله سبحانه وتعالى . فعقلك قاصر عن أن يدرك ذلك . لذلك قل : سبحان الله . ليس كمثله شيء في كل فعل يتصل بذات الله : " استوى إلى السماء " هذا الكلام هو كلام الله . فالمتحدث هو الله عز وجل . بعض الناس يقولون : تلقينا القرآن وحفظناه . نقول لهم : إن الذي حفظ القرآن هو الله سبحانه وتعالى . وما دام قد حفظ كلامه فهو جل جلاله يعلم أن الوجود كله لن يتعارض مع القرآن الكريم … والله سبحانه وتعالى حفظ القرآن ليكون حجة له على الناس . وما دام الله جل جلاله هو الخالق ، وهو القائل ، فلا توجد حقيقة في الكون كله تتصادم مع القرآن الكريم … واقرأ قوله سبحانه وتعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . وهذا من عظمة الله أن حفظ كلامه ليكون حجة على الناس ، والله سبحانه وتعالى وُجِدت صفاته قبل أن توجد متعلقات هذه الصفات ، فهو جل جلاله خَلَقَ لأنه خالق . كأن صفة الخلق وجدت أولاً وإلا كيف خلق أول خلقه ، إن لم يكن سبحانه وتعالى خالقا ؟ والله سبحانه وتعالى رزَّاق قبل أن يوجد مَنْ يرزقه . وإلا فبأي قدرة رزق الله أول خلقه ؟ والله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون بكمال صفاته . وشهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يشهد أي من خلق الله أنه لا إله إلا الله . واقرأ قوله تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ … } [ آل عمران : 18 ] . فالله سبحانه وتعالى شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يوجد أحد من خلقه يشهد بوحدانية ألوهيته ، شهد أنه لا إله إلا هو قبل أن يخلق الملائكة ليشهدوا شهادة مشهد بأنه لا إله إلا الله ، وأولو العلم شهادة علم . فكأن شهادة الذات للذات في قوله تعالى " شهد الله أنه لا إله إلا هو " هي التي يُعْتدُّ بها ، وهي أقوى الشهادات فالله ليس محتاجاً مِن خلقه إلى امتداد الشهادة . الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق الأرض وخلق السماء واستتب له الأمر . قال " وهو بكل شيء عليم " أي : لا تغيب ذرة من مُلْكه عن علمه . فهو عليم بكل ذرات الأرض وكل ذرات الناس ، وكل ذرات الكون ، والكون كله لا يفعل إِلا بإذنه ومراده . واقرأ قوله تعالى : { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] .