Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنه خلق جميع ما في الكون ، أراد أن يخبرنا عمن خلقه لعمارة هذا الكون ، فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق ، ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيراً لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة ؟ وجاءت لتدلنا أيضاً على صدق البلاغ عن الله . واقرأ قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ … } [ الكهف : 13 ] . كلمة الحق التي جاءت هنا لتدلنا على أن هناك قصصاً ، ولكن بغير حق ، والله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق ، وهناك قصص تروى في الدنيا ولا واقع لها ، بل هي من قبيل الخيال . وكلمة : " قصة " مأخوذة من قَصّ الأثر ، بمعنى : أن يتبع قصاص الأثر في الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلى مراده عندما يصل إلى نهاية الأثر … وما دمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق ، فلا بد - إذن - أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث وقعت فعلا . ولكل قصة في القرآن عبرة . أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه . فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين : واقرأ قوله تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ هود : 120 ] . فكل قصة تُثَبتُ فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث . وقصص القرآن ليست لقتل الوقت ، ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة الإيمانية ، ولو نظرنا إلى قصص القرآن الكريم نجد أنها تتحدث عن أشياء مضت وأصبحت تاريخاً ، والتاريخ يربط الأحداث بأزمانها ، وقد يكون التاريخ لشخص لا لحدث ، ولكن الشخص حدث من أحداث الدنيا . ولو قرأت تاريخ كل حدث لوجدت أنه يعبر عن وجهة نظر راويه ، فكل قصص التاريخ كتبت من وجهات نظر مَنْ رَوَوْها ولذلك ، فالقصة الواحدة تختلف باختلاف الراوي . ولكن قصص القرآن الكريم هو القصص الحق … والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ تتكرر على مر الزمن . ففرعون مثلاً هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض ، وأهل الكهف مثلاً هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله ، وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل إخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم ، وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكَّنه في الأرض ، فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله ، وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله ، فحققها لهم فكفروا بها ، وقصة شعيب عليه السلام هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال . وهكذا كل قصص القرآن ، قصص تتكرر في كل زمان حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون ، وأكثر من أهل كهف يَفرُّون بدينهم ، وأكثر من قارون يعبد المال والذهب ، ويحسب أنه استغنى عن الله . ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مُجَهَّلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران ، لماذا ؟ لأنها معجزة لن تتكرر ، . ولذلك عرَّفها الله لنا فقال " مريم ابنة عمران " وقال " عيسى بن مريم " حتى لا يلتبس الأمر ، وتدَّعي أي امرأة أنها حملت بدون رجل … مثل مريم . نقول : لا ، معجزة مريم لن تتكرر . ولذلك حددها الله تعالى بالاسم . فقال : عيسى بن مريم ، ومريم ابنة عمران … أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مُجَهَّلة . فلم يقل لنا الله تعالى : مَنْ هو فرعون موسى ، ولا مَنْ هم أهل الكهف ولا مَنْ هو ذو القرنين ولا مَنْ هو صاحب الجنتين … إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم . لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصاً بعينه . لا تتكرر القصة مع غيره ، وبعض الناس يشغلون أنفسهم بمَنْ هو فرعون موسى ؟ ومَنْ هو ذو القرنين ؟ … إلخ . نقول لهم لن تصلوا إلى شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص لنعرف أنه ليس المقصود شخصاً بعينه ، ولكن المقصود هو الحكمة من القصة . والقصص في القرآن لا ترد مكررة ، وقد يأتي بعض منها في آيات ، وبعض منها في آيات أخرى ، ولكن اللقطة مختلفة ، تعطينا في كل آية معلومة جديدة بحيث إنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم تجد أمامك قصة كاملة متكاملة كل آية تضيف شيئاً جديداً . وأكبر القصص في القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام . ويذكِّرنا القرآن الكريم بها دائماً لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ ، وفي كل مناسبة يذكرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء . واقرأ قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 38 - 39 ] . والفهم السطحي يظن أن هذا تكرار ونقول لا . فقوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] . هذه اللقطة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يُعِدُّ أم موسى إعداداً إيمانياً للحدث ، ولكن عند وقوع الحدث تتغير القصة على نمط سريع { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] . كلام يناسب لحظة وقوع الحدث … فالآية الأولى … بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت ، وأنها ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل ، وفيه تطمين لها . ألاَّ تخاف ولا تحزن . لأن الله منجيه ، وفيها بشارتان : أن الله سيرده لأمه ، وأن الله قد اختاره رسولاً . نأتي إلى الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة ، فتقول { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ … } [ طه : 39 ] . هنا نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت ، وهو ما لم يذكر في الآية السابقة ، ثم بعد ذلك نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلى الماء أن يلقى التابوت إلى الساحل ، وهذا ما لم يرد في الآية السابقة ، ونعرف أيضاً أن الذي سيأخذه وهو فرعون ، ستكون بينهما عداوة متبادلة … وهكذا نرى أن آيتي القصة يكمل بعضهما بعضاً ، وليس هناك تكرار . والله سبحانه وتعالى في الآية الثانية يريد أن يثبت أنه ستكون هناك عداوة متبادلة بين موسى وفرعون … كما أثبتت عداوة فرعون لله جل جلاله ولموسى ، فقال : { عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] . ولكن العداوة لا تستقر إلا إذا كانت متبادلة . فتأتي آية ثالثة لتكمل الصورة … في قوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً … } [ القصص : 8 ] . وهكذا بينت لنا الآية الكريمة كيف أن العداوة بين فرعون وموسى ستسقر حتى يقضى على فرعون . لأنه إذا كان إنسان عدواً لك ، وأنت تقابل العداوة بالإحسان ، تخمد العداوة بعد قليل . إذن : هذه الآيات ليست تكراراً ولكنها آيات تكمل القصة ، وتعطينا الصورة الكاملة المتكاملة . ولكن لماذا لم تأت قصة موسى متكاملة كقصة يوسف ؟ لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُثبِّتَ بها نبينا عليه الصلاة والسلام والمؤمنين ، فتأتي هنا لقطة وهنا لقطة لتؤدي ما هو مطلوب من التثبيت بما لا يُخِلُّ … لأن الآيات تعطينا القصة متكاملة . وهكذا قصة آدم ، جاءت لنا في آيات متعددة ، لتعطينا في مجموعها قصة كاملة . وفي الوقت نفسه كل آية لها حكمة يحتاجها التوقيت الذي نزلت فيه ، فالله سبحانه وتعالى يروي لنا بداية الخلق ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب " . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُعرِّفنا كيف بدأ الخلق ، وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته … فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر . عرَّفنا اسمه ، وهو آدم عليه السلام . وتكلم عن المادة التي خلق منها . وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم ، وحدَّثنا عن النقاش الذي دار مع الملائكة . كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض ، وأنه علَّمه الأسماء كلها ليقود حركة حياته ، وعلَّمنا منطق علم الأشياء ، وعلم مسمياتها ، وحدثنا عن الحوار الذي حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود ، وبين لنا حجة إبليس في الامتناع عن السجود ، وخطة إبليس ومدخله إلى قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك . إذن : فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم ، ولو أن بشراً يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن يأتي بكل هذه اللقطات ، ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت . والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في " سورة الأعراف " ولا في " الحجر " ولا في " الإسراء " ولا في " الكهف " ولا في " طه " . وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار … فالله سبحانه وتعالى أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة . هنا لابد لنا من وقفة . أخلق آدم كفرد أم خلقه الله وكل ذريته مطمورة فيه إلى يوم القيامة ، إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [ الأعراف : 11 ] . الخطاب هنا للجميع لآدم وذريته ، فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلى أن الأصل الأول للخلق آدم ، وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى أن تقوم الساعة وراثة ، أي : أنه ساعة خلق آدم … كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله . هذا عن هذا … حتى قيام الساعة . ولقد قلتُ : إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم ، فأولاد آدم أخذوا منه والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده ، والذين بعدهم أخذوا أيضاً من الجزيء الحي الذي خُلِق في الأصل مع آدم ، وكذلك الذين بعدهم والذين بعدهم . والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة ، كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي بعده . ولو كان هناك حلقة مفقودة لتوقفت الحياة ، كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج ، فلا تكون له ذرية من بعده . وتتوقف حلقة الحياة . فكون حلقة الحياة مستمرة دليل أنها حياة متصلة لم تتوقف . وما دامت الحياة من عهد آدم إلى يومنا هذا متصلة ، فلابد أن يكون في كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها . وانتقلت بعده الحياة في حلقات متصلة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم القيامة . فأنا الآن حي لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي ، وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من أبيه ، وهكذا حتى تصل إلى آدم ، إذن : فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ آدم إلى يومنا هذا ، ولو توقفت لما كان لك وجود . إذن : فحياة الذين يعيشون الآن موصولة بآدم … لم يطرأ عليها موت والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضاً موصولة بآدم أول الخلق . والحق سبحانه وتعالى حين أمر الملائكة بالسجود لآدم فإنهم سجدوا لآدم ولذريته إلى أن تقوم الساعة ، وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره ، وشهدت الخلق الأول . إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ … } [ الأعراف : 11 ] . فيه جزئية جديدة لقصة الخلق . وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] . أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عِنْد خَلْقِ آدم خَلَقَه خليفة في الأرض ، والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحداً في الخلق ، بدليل أنه قال " إني جاعل " إذن : فهو أمر مفروغ منه ، ولكنه إعلام للملائكة … والله سبحانه وتعالى ، عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة ، فهناك المدبرات أمراً ، والحفظة الكرام ، وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد . فكان الإعلام . لأن للملائكة عملاً مع هذا الخليفة . قد يقول بعض الناس : إن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس . نقول : ما يدريك أن وراء كل ناموس مَلَكاً ؟ ولكن هذا الخليفة سَيَخْلُفُ مَنْ ؟ قد يخلف بعضه بعضاً . في هذه الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره ، فلو كانوا جميعاً سيعيشون ما خلف بعضهم بعضاً ، وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر ، ولكن الله سبحانه وتعالى نفى أن يخلف الإنسان جنساً آخر . واقرأ قوله جل جلاله : { … إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 - 20 ] . والخلق الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله . والله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن البشر سيخلفون بعضهم إلى يوم القيامة … فيقول جل جلاله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] . ولكن هذا يطلق عليه خَلْفٌ . ولا يطلق عليه خليفة . والشاعر يقول : @ ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْـنافِهِمْ وبَقـيتُ في خَلْفٍ كَجلْدٍ الأَجْرَبِ @@ ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق ، وجعل الكون مسخراً له فكأنه خليفة الله في أرضه ، أمده بعطاء الأسباب ، فخضع الكون له بإرادة الله ، وليس بإرادة الإنسان ، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي : " يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى وأسُدُّ فقرك … وإلاّ تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسُدّ فقرك " إذن : كلمة خليفة تأخذ عدة معان . ماذا قالت الملائكة : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … } . كيف عرف الملائكة ذلك ؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها ، أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض ، ولكن كلمة " سفك " وكلمة " دم " كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد ؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة . والله سبحانه وتعالى يقول : { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] . فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان . وقوله تعالى : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] . معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك ، أما علم الله سبحانه وتعالى … فهو أزلي لا نهائي . ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في أنفسهم ؟ سواء قالوه أم أسروه ، فقد عَلِمَه الله لأنه يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون . وأنه يعلم السر وأخفى . فما هو السر . وما هو الأخفى من السر ؟ السر هو ما أسررته إلى غيرك . فما أَسِرُّ به إلى غيري ، فهو السر . وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد هو أخفى من السر . فلا يقال : أسررت إلا إذا بُحْتُ به لغيري . أما ما أخفيه في صدري ، فلا يعلمه أحد إلا الله فهذا هو الأخفى من السر . وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] أراد أن يعطي القضية بُعْدَها الحقيقي . وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … } [ البقرة : 30 ] . والتسبيح هو التنزيه عمّا لا يليق بذات المُنَزَّه . والتقديس هو التطهير مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به . ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدُّوس . سُبّوح أي مُنزَّه عن كل ما لا يليق بجلاله . وقدوس . أي مُطَهَّرْ … التسبيح يحتاج إلى مُسبِّح . وإلى ما نسبحه . والملائكة قالوا : { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ … } [ البقرة : 32 ] . وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى … والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة ، والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده . لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى . فلا تسمع في حياتك أن إنساناً قال لبشر سبحانك . وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى . وقول الملائكة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … } [ البقرة : 30 ] كأن نقول سبحان الله وبحمده . ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته … فلا تشبَّه بذات ، وفي صفاته . فلا تُشَبَّه بصفات وفي أفعاله ، فلا تُشَبَّه بأفعال … ولكن ما معنى كلمة وبحمده ؟ معناها أننا نُنَزِّهك ونحمدك . أي يا رب تنزيهي لك نعمة . ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك ، والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار . ولأنك يا ربي قُدُّوس طاهر . لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر . ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر . إنه عرّفنا معنى { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … } [ البقرة : 30 ] . ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ولم يطلقها هكذا . ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع .