Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 49-49)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن حذر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من يوم لا تنفع فيه الشفاعة . أراد أن يذكرهم بفضله عليهم وبنعمه . قوله تعالى : { وَإِذْ } هي ظرف لشيء وسبق أن قلنا إن الظرف نوعان . لأن كل حدث من الأحداث يحتاج إلى زمان يقع فيه وإلى مكان يقع فيه . وعندما أقول لك اجلس مكانك . هذا الظرف يراد به المكان . وعندما يخاطب الله عز وجل عباده : أذكر إذ فعلت كذا . أي اذكر وقت أن فعلت كذا ظرف زمان . وقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم } أي اذكروا الوقت الذي نجاكم فيه من فرعون . والآية التي نحن بصددها وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم . قوله تعالى : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ البقرة : 49 ] . { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ … } [ الأعراف : 141 ] . وقوله جل جلاله في سورة إبراهيم : { إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ … } [ إبراهيم : 6 ] . الاختلاف بين الأولى والثانية هو قوله تعالى في الآية الأولى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } . وفي الثانية : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ } . " ونجينا " في الآية الأولى ، " وأنجينا " في الآية الثانية . ما الفرق بين نجينا وأنجينا ؟ هذا هو الخلاف الذي يستحق أن تتوقف عنده … في سورة البقرة : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } … الكلام هنا من الله … أما في سورة إبراهيم فنجد { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ } [ إبراهيم : 6 ] . الكلام هنا كلام موسى عليه السلام . ما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام موسى ؟ . إن كلام موسى يحكي عن كلام الله . إن الله سبحانه وتعالى حين يَمْتَنُّ على عباده يمتن عليهم بقمم النعمة ، ولا يمتن بالنعم الصغيرة . والله تبارك وتعالى حين امتن على بني إسرائيل قال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [ البقرة : 49 ] . ولم يتكلم عن العذاب الذي كان يلاقيه قوم موسى من آل فرعون . إنهم كانوا يأخذونهم أجراء في الأرض ليحرثوا وفي الجبال لينحتوا الحجر وفي المنازل ليخدموا . ومن ليس له عمل يفرضون عليه الجزية . ولذلك كان اليهود يمكرون ويسيرون بملابس قديمة حتى يتهاون فرعون في أخذ الجزية منهم . وهذا معنى قول الحق سبحانه وتعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ … } [ البقرة : 61 ] . أي أنهم يتمسكنون ويظهرون الذلة حتى لا يدفعوا الجزية . ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يمتن عليهم بأنه أنجاهم من كل هذا العذاب . بل يمتن عليهم بقمة النعمة . وهي نجاة الأبناء من الذبح واستحياء النساء لأنهم في هذه الحالة ستستذل نساؤهم ورجالهم . فالمرأة لا تجد رجلاً يحميها وتنحرف . كلمة نجَّى وكلمة أنجى بينهما فرق كبير . كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب . وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب . الأولى للتخليص من العذاب والثانية يبعد عنهم عذاب فرعون نهائياً . ففضل الله عليهم كان على مرحلتين . مرحلة أنه خلصهم من عذاب واقع عليهم . والمرحلة الثانية أنه أبعدهم عن آل فرعون فمنع عنهم العذاب . قوله تعالى : { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [ البقرة : 49 ] ما هو السوء ؟ إنه المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والسخرة والعمل بالأشغال الشاقة . ما معنى يسوم ؟ يقال سام فلان خصمه أي أذله وأعنته وأرهقه . وسام مأخوذة من سام الماشية نتركها ترعى . لذلك سميت بالسام أي المتروكة . وعندما يقال إن فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب . معناها أن كل حياتهم ذل وعذاب … فتجد أن الله سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن حكام مصر من الفراعنة يتكلم عن فراعنة قدماء كانوا في عهد عاد وعهد ثمود . واقرأ قوله تعالى : { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } [ الفجر : 1 - 12 ] . أي أن الله تبارك وتعالى جاء بحضارة الفراعنة وقدماء المصريين بعد عاد وثمود . وهذا دليل على أن حضارة عاد وثمود قديمة . والله سبحانه وتعالى وصف عاداً بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد . أي أنها حضارة أرقى من حضارة قدماء المصريين . قد يتساءل بعض الناس كيف يصف الله سبحانه وتعالى عاداً بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد مع أنه يوجد الآن حضارات متقدمة كثيرة . نقول إن الله قد كشف لنا حضارة الفراعنة وآثارهم . ولكنه أخفى عنا حضارة عاد . ولقد وجدنا في حضارة الفراعنة أشياء لم نصل إليها حتى الآن . مثل براعتهم في تحنيط الموتى والمحافظة على الجثث ، وبناء الأهرامات وغير ذلك . وبما أن حضارة عاد كانت أرقى من حضارة الفراعنة . فإنها تكون قد وصلت إلى أسرار ما زالت خافية على العالم حتى الآن . ولكنا لا نعرف شيئاً عنها ، لأن الله لم يكشف لنا آثارها . ولقد تحدث الحق تبارك وتعالى عن الفراعنة باسم فرعون ، وتكلم عنهم في أيام موسى باسم آل فرعون . ولكن الزمن الذي كان بين عهدي يوسف وموسى لم يسم ملك مصر فرعون ، إنما سماه العزيز الذي هو رئيس الوزراء ورئيسه الملك . وقال الحق تبارك وتعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ … } [ يوسف : 50 ] . إذن فالحاكم أيام يوسف كان يسمى ملكاً ولم يسم فرعون . بينما حكام مصر قبل يوسف وبعده كانوا يلقبون بفرعون . ذلك لأنه قبل عهد يوسف عليه السلام حكم مصر الهكسوس أهل بني إسرائيل . فقد أغاروا على مصر وانتصروا على الفراعنة ، وحكموا مصر سنوات حتى تجمع الفراعنة وطردوهم منها . والغريب أن هذه القصة لم تعرف إلا بعد اكتشاف حجر رشيد ، وفك رموز اللغة الهيروغليفية . وكان ملوك الهكسوس من الرعاة الذين استعمروا مصر فترة ، ولذلك نرى في قصة يوسف عليه السلام قول الله سبحانه وتعالى : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ } [ يوسف : 50 ] . وهكذا نعلم أن القرآن الكريم قد روى بدقة قصة كل حاكم في زمنه . وصف الفراعنة بأنهم الفراعنة ، ثم جاء الهكسوس فلم يكن هناك فرعون ولكن كان هناك ملك . وعندما جاء موسى كان الفراعنة قد عادوا لحكم مصر . فإذا كان هذا الأمر لم نعرفه إلا في مطلع القرن الخامس . عندما اكتشف الفرنسيون حجر رشيد ، ولكن القرآن أَرَّخَ له التاريخ الصحيح منذ أربعة عشر قرناً . وهذه معجزة تنضم لمعجزات كبيرة في القرآن الكريم عن شيء كان مجهولاً وقت نزول القرآن وأصبح معلوماً الآن . لنجد أن القرآن جاء به في وضعه الصحيح والسليم . بعد أن تحدثنا عن الفرق بين نجيناكم وأنجيناكم . نتحدث عن الفرق بين { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } . و { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ } … الذبح غير القتل … الذبح لابد فيه من إراقة دماء ، والذبح عادة يتم بقطع الشرايين عند الرقبة ، ولكن القتل قد يكون بالذبح أو بغيره كالخنق والإغراق . كل هذا قتل ليس شرطاً فيه أن تسفك الدماء . والحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن فرعون حينما أراد أن ينتقم من ذرية بني إسرائيل انتقم منهم انتقامين … انتقاماً لأنهم كانوا حلفاء للهكسوس وساعدوهم على احتلال مصر . ولذلك فإن ملك الهكسوس اتخذ يوسف وزيراً . فكأن الهكسوس كانوا موالين لبني إسرائيل . وعندما انتصر الفراعنة انتقموا من بني إسرائيل بكل وسائل الانتقام . قتلوهم وأحرقوا عليهم بيوتهم . أما مسألة الذبح في قوله تعالى : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } فلقد رأى فرعون ناراً هبت من ناحية بيت المقدس فأحرقت كل المصريين ولم ينج منها غير بني إسرائيل . فلما طلب فرعون تأويل الرؤيا . قال له الكهان يخرج من ذرية إسرائيل ولد يكون على يده نهاية ملكك . فأمر القوابل الدايات بذبح كل مولود ذكر من ذرية بني إسرائيل . ولكن قوم فرعون الذين تعودوا السلطة قالوا لفرعون : إن بني إسرائيل يوشك أن ينقرضوا وهم يقومون بالخدمات لهم . فجعل الذبح سنة والسنة الثانية يبقون على المواليد الذكور . وهارون ولد في السنة التي لم يكن فيها ذبح فنجا . وموسى ولد في السنة التي فيها ذبح فحدث ما حدث . إذن سبب الذبح هو خوف فرعون من ضياع ملكه . وفرض الذبح حتى يتأكد قوم فرعون من موت المولود . ولو فعلوه بأي طريقة أخرى كأن ألقوه من فوق جبل أو ضربوه بحجر غليظ أو طعنوه بسيف أو برمح قد ينجو من الموت . ولكن الذبح يجعلهم يتأكدون من موته في الحال فلا ينجو أحد . والحق يقول : { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [ البقرة : 49 ] . كلمة الابن تطلق على الذكر ، ولكن الولد يطلق على الذكر والأنثى . ولذلك كان الذبح للذكور فقط . أما النساء فكانوا يتركونهن أحياء . ولكن لماذا لم يقل الحق تبارك وتعالى يذبحون أبناءكم ويستحيون بناتكم بدلاً من قوله يستحيون نساءكم . الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الفكرة من هذا هو إبقاء عنصر الأنوثة يتمتع بهن آل فرعون . لذلك لم يقل بنات ولكنه قال نساء . أي أنهم يريدونهن للمتعة وذلك للتنكيل ببني إسرائيل . ولا يقتل رجولة الرجل إلا أنه يرى الفاحشة تصنع في نسائه . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [ البقرة : 49 ] . ما هو البلاء ؟ بعض الناس يقول إن البلاء هو الشر . ولكن الله تبارك وتعالى يقول : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] . إذن هناك بلاء بالخير وبلاء بالشر . والبلاء كلمة لا تخيف . أما الذي يخيف هو نتيجة هذا البلاء لأن البلاء هو امتحان أو اختبار . إن أديته ونجحت فيه كان خيراً لك . وأن لم تؤده كان وبالاً عليك . والحق سبحانه وتعالى يقول في خليله إبراهيم : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً … } [ البقرة : 124 ] . فإبراهيم نجح في الامتحان ، والبلاء جاء لبني إسرائيل من جهتين … بلاء الشر بتعذيبهم وتقتيلهم وذبح أبنائهم ، وبلاء الخير بإنجائهم من آل فرعون . ولقد نجح بنو إسرائيل في البلاء الأول . وصبروا على العذاب والقهر وكان بلاءً عظيماً ، وفي البلاء الثاني فعلوا أشياء سنتعرض لها في حينها .