Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 39-39)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا ما أوحينا به إلى أم موسى . واليمُّ : البحر الكبير ، سواء أكان مالحاً أم عَذْباً ، فلما تكلّم الحق سبحانه عن فرعون قال : { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ … } [ الأعراف : 136 ] والمراد : البحر الأحمر ، أما موسى فقد وُلِد في مصر وأُلْقِي تابوته في النيل ، وكان على النيل قصر فرعون . وبالله … أي أم هذه التي تُصدِّق هذه الكلام : إنْ خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليم ؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك مُتيقّن ؟ ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله ، ولم تتراجع ، وهذا هو الفرق بين وارد الرحمن ووارد الشيطان ، وارد الرحمن لا تجد النفس له ردّاً ، بل تتلقاه على أنه قضية مُسلَّمة ، فوارد الشيطان لا يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن ، فأخذتْ الأم الوليد وأَلْقَتْه كما أوحى إليها ربها . وتلحظ في هذه الآيات أن آية القصص لم تذكر شيئاً عن مسألة التابوت : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] هكذا مباشرة . قالوا : لأن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف ، وهي الرَّمي في اليم ، وطبيعي في حنان الأم أنْ تحتال لولدها وتعمل على نجاته ، فتصنع له مثل هذا التابوت ، وتُعِدّه إعداداً مناسباً للطَفْو على صفحة الماء . فالكلام هنا لإعداد الأم وتهيئتها لحين الحادثة ، وفَرْق بين الخطاب للإعداد قبل الحادثة والخطاب حين الحادثة ، فسوف يكون للأمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة ، صنعتْ له صندوقاً جعلت فيه مَهْداً ليّناً واحتاطتْ للأمر ، ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] فسوف نُنجيه لأن له مهمة عندي { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء الأمر في عبارات سريعة متلاحقة : { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] . لذلك ، تجد السياق في الآية الأولى هادئاً رتيباً يناسب مرحلة الإعداد ، أما في التنفيذ فقد جاء السياق سريعاً متلاحقاً يناسب سرعة التنفيذ ، فكأن الحق سبحانه أوحى إاليها : أسرعي إلى الأمر الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك ، هذا الكلام في الحبْكة الأخيرة لهذه المسألة . وقوله تعالى : { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] أي : تحمله الأمواج وتسير به ، وكأن لديها أوامر أن تُدخِله في المجرى الموصِّل لقصر فرعون . فعندنا - إذن - لموسى ثلاثة إلقاءات : إلقاء الرحمة والحنان في التابوت ، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذاً لأمر الله ، وإلقاء اليَمِّ للتابوت عند قصر فرعون . وقوله تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] عَدُو لِي أي : لله تعالى لأن فرعون ادعى الألوهية ، وَعَدُوٌّ لَهُ أي : لموسى لأنه سيقف في وجهه ويُوقفه عند حَدِّه . وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه ، فإذا أراد شيئاً قضاه ، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون ، فمَنْ يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعُتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته ، بل ويُحبه ويجد له قبولاً في نفسه . وهل التقطه فرعون بداية ليكون له عَدواً ؟ أم التقطه ليكون ابناً ؟ كما قالت زوجته آسية : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ القصص : 9 ] . إذن : كانت محبة ، إلا أنها آلتْ إلى العداوة فيما بعد ، آلتْ إلى أن يكون موسى هو العدو الذي ستُربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويضُ ملكك على يديه لذلك سيقول فرعون : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] . ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] ثم قال في آية أخرى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً … } [ القصص : 8 ] . والمتأمل في الآيتين يجد أن العداوة في الآية الأولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك وتعالى ، أما العداوة في الآية الثانية فمن جانب موسى لفرعون ، وهكذا تكون العداوة متبادلة ، وهذا يضمن شراستها واستمرارها ، وهذا مُرَاد في هذه القصة . أمّا إنْ كانت العداوة من جانب واحد ، فلربما تسامح غير العدو وخَجِل العدو فتكون المصالحة . والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكونَ شرسة لأنها عداوة في قضية القِمَّة ، وهي التوحيد . ولكن ، لماذا لم يُلفِت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في أمره ؟ إنها إرادة الله التي لا يُعجِزها شيء ، فتحبه زوجة فرعون ، وتقول : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ … } [ القصص : 9 ] لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي … } [ طه : 39 ] . فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته ، وأحبَّه فرعون لما رآه ، وهذه محبة من الله بلا سبب للمحبة لأن المحبة لها أسباب بين الناس ، فتحب شخصاً لأنك تودّه ، أو لأنه قريب لك أو صديق ، أو أسْدى لك معروفاً ، وقد يكون الحب من الله دون سبب من هذه الأسباب ، فلا سببَ له إلا إرادة الله . فمعنى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي … } [ طه : 39 ] وليس فيك ما يُوجب المحبة ، وليس لديك أسبابها ، خاصة وقد كان موسى عليه السلام أسمر اللون ، أجعد الشعر ، أقنى الأنف ، أكتف ، وكأن هذه الخِلْقة جاءت تمهيداً لهذه المحبة ، وإثباتاً لإرادة الله التي طوَّعَتْ فرعون لمحبة موسى ، كما قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . وهكذا ، حوَّل الله قلب فرعون ، وأدخل فيه محبة موسى ليُمرِّر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير ، فجعله يأخذ عدوه ويُربِّيه في بيته ، ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب . ثم يقول سبحانه : { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 39 ] أي : تُربَّى على عَيْن الله وفي رعايته ، وإنْ كان الواقع أنه يُربّى في بيت فرعون ، فالحق - تبارك وتعالى - يرعاه ، فإنْ تعرَّض لشيء في التربية تدخّل ربُّه عز وجل ليعلمه ويُربّيه . ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية ، ومعهما موسى صغير يلعب ، فإذا به يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته ، فأمر بقتله ، فتدخلّت امرأته قائلة : إنه ما يزال صغيراً لا يفقه شيئاً ، إنه لا يعرف التمرة من الجمرة . فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه ، فأزاح الله يده عن التمرة إلى الجمرة لِيُفوّت المسألة على هذا المغفل الكبير ، بل وأكثر من هذا ، فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه ، فلدغتْ لسانه ، وسبَّبت له هذه العُقْدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُطمئِن نبيه موسى - عليه السلام - : لا تخف ، فأنت تحت عيني وفي رعايتي ، وإنْ فعلوا بك شيئاً سأتدخل ، وفي آية أخرى قال : { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] فأنا أرعاك وأحافظ عليك لأن لك مهمة عندي . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ … } .