Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 4-4)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تنزيلاً : مصدر أي : أنزلناه تنزيلاً ، وقد ورد في نزول القرآن : أنزلناه ، ونزلناه ونزل ، يقول تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا … } [ القدر : 1 - 4 ] . لأن القرآن أخذ أدواراً عِدَّة في النزول ، فقد كان في اللوح المحفوظ ، فأراد الله له أن يباشر القرآن مهمته في الوجود ، فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا . فأنزله - أي الله تعالى - ثم تَنزَّل مُفرَّقاً حسْب الأحداث من السماء الدنيا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به جبريل : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . وقوله تعالى : { مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } [ طه : 4 ] . خَصَّ السماوات والأرض ، لأنها من أعظم خَلْق الله ، وقد أعدهما الله ليستقبلا الإنسان ، فالإنسان طرأ على كَوْن مُعَدٍّ جاهز لاستقباله ، فكان عليه ساعة أنْ يرى هذا الكون المُعدَّ لخدمته بأرضه وسمائه ، ولا قدرة له على تسيير شيء منها ، كان عليه أن يُعمِلَ عقله ، ويستدل بها على الموجد سبحانه وتعالى . كأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لك : إذا كان الخالق سبحانه قد أعدَّ لك الكون بما يُقيم حياتك المادية ، أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء ؟ والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة تُوفِّر لخليفته في الأرض استبقاءَ حياته ، وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق ، واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام وشراب وهواء ، وقد أعطاها الله للإنسان بحكمة بالغة . فالطعام يحتاجه الإنسان ، ويستطيع أنْ يصبر عليه شهراً ، دون أن يأكل ، ويحتاج إلى الماء ولكن لا يستطيع أنْ يصبر عليه أكثر من عشرة أيام ، ويحتاج إلى الهواء ولكن لا يصبر عليه لحظةً تستغرق عِدَّة أنفاس . لذلك ، فمن رحمته تعالى بعباده أنْ يمتلك بعضُ الناس القوتَ ، فالوقت أمامك طويل لتحتالَ على كَسْبه ، وقليلاً ما يملك أحدٌ الماءَ ، أما الهواء الذي لا صَبْر لك عليه ، فمن حكمة الله أنه لا يملكه أحد ، وإلا لو منع أحد عنك الهواء لمُتَّ قبل أنْ يرضى عنك . فمن حكمة الله أنْ خلق جسمك يستقبل مُقوِّمات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف من الغير ، وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قَدْر الطاقة المبذولة ، وما فاض يُختزَن في جسمك على شكل دُهْن يُغذِّي الجسم حين لا يتوفر الطعام . ومن عجائب قدرة الله أن هذه المادة الدُّهنية تتحول تلقائياً إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم ، فإن احتاج الحديد تتحول كيماوياً إلى الحديد ، وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماوياً إلى زرنيخ ، وهي في الواقع مادة واحدة ، فمَنْ يقدر على هذه العملية غيره تعالى ؟ وبعد أنْ أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج والتناسل . وقوله تعالى : { ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى } [ طه : 4 ] العلا : جمع عُليا ، كما نقول في جمع كبرى : كُبَر { إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } [ المدثر : 35 ] . وهكذا تكتمل مُقوِّمات التكوين العالي لخليفة الله في الأرض ، فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه بخَلْق السماوات والأرض ، أعطاه ما يُقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة الشهوات ، فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات العلا . والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للإنسان هي صِفَة الرحمانية لذلك قال بعدها : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى … } .