Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 70-70)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الزجاج في هذا الموقف : عجيب أمر هؤلاء ، فقد ألقوا حبالهم وعِصيّهم للكفر والجحود ، فإذا بهم يُلْقُون أنفسهم للشكر والسجود . نعم ، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة ، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكَيْد ، وجمعوا صَفْوة السحر وأساتذته ممنْ يَعْلمون السحر جيداً ، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم ، فلما رَأوا العصا وما فعلتْ بسحرهم لم يخالطهم شكٌّ في أنها معجزة بعيدة عَمّا يصنعونه من السحر لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون . وهذا يدلُّنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء ، فإذا ما تيقظتْ الفطرة الإيمانية وأُزيلَتْ عنها الغشاوة سارعتْ إلى الإيمان وتأثرتْ به . لقد سارع السحرة إلى الإيمان ، وكان له هَوىً في نفوسهم ، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد : { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ … } [ السحر : 73 ] فكانوا مكرهين ، كانوا أيضاً مُسخَّرين ، بدليل قولهم : { … إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } [ الأعراف : 113 ] . كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجراً ، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجراً ، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه ، أما ممارستهم للسحر إرهاباً للناس وتخويفاً لمن تُسوِّل له نفسه الخروج والتمرد على فرعون ، فكان سُخْرة ، لا يتقاضَوْن عليه أجراً . لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم ، بل زادهم منحة أخرى { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ الأعراف : 114 ] فسوف تكونون سدنة الفرعونية ، يريد أنْ يشحن هِمَمهم ، ويشحذَ عزائمهم ، حتى لا يدخروا وُسْعاً في فَنِّ السحر في هذه المعركة . إذن : فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل ، وتعلم أنه كذب وتلفيق ، لكن مذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به ، بل ويُكرههم عليه ، ويلزمهم أنْ يُعلِّموا غيرهم ، لماذا ؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها ، فعليها يقوم مُلْكه وتُبْنى ألوهيته . وقوله تعالى : { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً … } [ طه : 70 ] فَرْق بين { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ … } [ الشعراء : 44 ] وهذا منهم عمل اختياري ، وبين { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً … } [ طه : 70 ] : يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم ، كأن صَوْلة الحق فاجأتْ صحوة الفطرة ، فلم يملكوا إلا أنْ خرُّوا لله ساجدين ، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور ، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى ، لأنها ليستْ سِحْراً فهم أعلم الناس بالسحر . ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع أُلقي السحرةُ ، قالوا ، آمنا . لتدل على أنهم كانوا يَداً واحدة لم يشذْ منهم واحد ، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مُسخَّرين . كما أن إعلان إيمانهم جاء بالفعل المرئي المشاهد للجميع { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً … } [ طه : 70 ] ، ثم بالقول المسموع { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] وفي آية أخرى : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] . ونعلم أن موسى - عليه السلام - هو الأصل ، ثم أُرسِل معه أخوه هارون ، ولما عرضَ القرآن موقف السحرة مع موسى حكى قولهم : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] وقولهم : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] . لذلك كانت هذه المسألة مثارَ جَدَل من خصوم الإسلام ، يقولون : ماذا قال السحرة بالضبط ؟ أقالوا الأولى أم الثانية ؟ ولك أن تتصور جمهرة السحرة الذين حضروا هذه المعركة ، فكان رؤساؤهم وصفوتهم سبعين ساحراً ، فما بالك بالمرؤوسين ؟ إذن : هم كثيرون ، فهل يُعقل مع هذه الكثرة وهذه الجمهرة أن يتحدوا في الحركة وفي القول ؟ أم يكون لكل منهم انفعاله الخاص على حَسْب مداركه الإيمانية ؟ لا شَكَّ أنهم لم يتفقوا على قول واحد ، فمنهم مَنْ قال { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] وآخرون قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] . كذلك كان منهم سطحيّ العبارة ، فقال { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] ولم يفطن إلى أن فرعون قد ادّعى الألوهية وقال أنا ربكم الأعلى فربما يُفهم من قوله { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 48 ] أنه فرعون ، فهو الذي ربّى موسى وهو صغير . وآخر قد فطن إلى هذه المسألة ، فكان أدقَّ في التعبير ، وأبعد موسى عن هذه الشبهة ، فقال : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] وجاء أولاً بهارُون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته ، ولا فضل له عليه ، ثم جاء بعده بموسى . إذن : هذه أقوال متعددة ولقطات مختلفة لمجتمع جماهيري لا تنضبط حركاته ، ولا تتفق تعبيراته ، وقد حكاها القرآن كما كانت فليس لأحد بعد ذلك أن يقول : إنْ كان القول الأول صحيحاً ، فالقول الآخر خطأ أو العكس . وما أشبه هذا الموقف الآن بمباراة رياضية يشهدها الآلاف ويُعلِّقون عليها ، تُرى أتتفق تعبيراتهم في وصف هذه المباراة ؟ نقول : إذن ، تعددت اللقطات وتعددت الأقوال للقصة الواحدة لينقل لنا القرآن كل ما حدث . ثم يقص الحق سبحانه رد فعل فرعون على ما حدث ، فيقول : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ … } .