Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 71-71)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
طبيعي أن يشتاط فرعون غضباً بعدما سمعه من سحرته ، فقد جمعهم لينصروه فإذا بهم يخذلونه ، بل ويُقوِّضون عرشه من أساسه فيؤمنون بإله غيره ، ويا ليتهم لما خذلوه سكتوا ، إنما يعلنونها صريحة عالية مدوية : { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [ طه : 70 ] . { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ … } [ طه : 71 ] فمع الخيبة التي مُنِي بها ما يزال يتمسك بفرعونيته وألوهيته ، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به ، يريد أن يعطي للقوم صورة المتماسك الذي لم تُؤثّر فيه هذه الأحداث ، فقال { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ … } [ طه : 71 ] فأنا كبيركم الذي علّمكم السحر ، وكان عليكم أنْ تحترموا أستاذيته ، وقد كنت سآذنُ لكم . وكلمة آمنتم مادتها : أمِنَ . وقد أخذت حيزاً كبيراً في القرآن الكريم ، والأصل فيها : أمِنَ فلان آمناً يعني : اطمأن . فليس هناك ما يُخوّفه . لكن هذه المادة تأتي مرة ثلاثية أَمِنَ وتأتي مزيدة بالهمزة آمن . وهذا الفعل يأتي متعدياً إلى المفعول مباشرة ، كما في قوله تعالى { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] يعني : آمن سكان مكة من الخوف . وقد يتعدى بالباء كما في : آمنت بالله ، أو يتعدى باللام كما في قوله تعالى : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ … } [ يونس : 83 ] وآمن له يعني : صدَّقه فيما جاء به . إذن : لدينا : آمَنَهُ يعني أعطاه الأمن ، وآمن به : يعني اعتقده ، وآمن له : يعني صَدَّقه . وقد تأتي أَمن وآمن بمعنى واحد ، كما في قول سيدنا يعقوب : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ … } [ يوسف : 64 ] . فلماذا اختلفت الصيغة من آمن إلى أَمِن ؟ قالوا : لأن قوله { كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ … } [ يوسف : 64 ] كانت تجربة أولى ، فجاء الفعل أَمن مُجرّداً على خلاف الحال في المرة الثانية ، فقد احتاجت إلى نوع من الاحتياط للأمر ، فقال { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ … } [ يوسف : 64 ] فزاد الهمزة للاحتياط . فمعنى قول فرعون : { آمَنتُمْ لَهُ … } [ طه : 71 ] يعني أي : صدَّقتموه . وتأمل هنا بلاغة القرآن في هذا التعبير { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ … } [ طه : 71 ] ومَنِ الذي يقولها ؟ إنه فرعون الآمر الناهي في قومه يتحدث الآن عن الإذن . وفَرْق بين أمر وأذن ، أمر بالشيء يعني : أنه يحب ما أمر به ، ويجب عليك أنت التنفيذ . أما الإذن فقد يكون في أمر لا يحبه ولا يريده ، فهو الآن يأذن لأنه لا يقدر على الأمر . وما دُمْتُمْ قد آمنتم له قبل أن آذن لكم فلا بُدَّ أن يكون هو كبيركم الذي علّمكم السحر ، فكان وفاؤكم له ، واحترمتم هذا الكِبَر وساعدتموه على الفوز . وهذا من فرعون سوء تعليل لواقع الإيمان ، ففي نظره أن موسى تفوّق عليهم ، لا لأنه يُجيد فنَّ السحر أكثر منهم ، إنما تفوّق عليهم لأنهم جاملوه وتواطأوا معه لأنه كبيرهم ومُعلِّمهم . لذلك يتهدَّدهم قائلا : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ … } [ طه : 71 ] . جاء هذا التهديد والوعيد جزاءً لهم لأنهم - في نظره - هزموه وخذلوه في معركته الفاصلة أمام موسى عليه السلام ، ومعنى : { مِّنْ خِلاَفٍ … } [ طه : 71 ] الخِلاَف أن يأتي شيء على خلاف شيء آخر ، والكلام هنا عن الأيدي والأرجل ، فيكون المراد اليد اليمنى مع الرِّجْل اليسرى ، أو اليد اليُسْرى مع الرِّجْل اليُمْنى . وقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ … } [ طه : 71 ] المعروف أن التَّصلْيب يكون على الجذوع لذلك حاول بعض المفسرين الخروج من هذا الإشكال فقالوا : في هنا بمعنى على . لكن هذا تفسير لا يليق بالأسلوب الأعلى للبيان القرآنيّ ، ويجب أن نتفق أولاً على معنى التصليب : وهو أن تأتي بالمصلوب عليه وهو الخشب أو الحديد مثلاً ، ثم تأتي بالشخص المراد صَلْبه ، وتربطه في هذا القائم رباطاً قوياً ، ثم تشدّ عليه بقوة . ولك أنْ تُجرِّب هذه المسألة ، فتربط مثلاً عود كبريت على إصبعك ، ثم تشدُّ عليه الرباط بقوة ، وسوف تجد أن العود يدخل في اللحم ، ساعتها تقول : العود في إصبعك ، لا على إصبعك . إذن قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ … } [ طه : 71 ] في هنا على معناها الأصلي للدلالة على المبالغة في الصَّلْب تصليباً قوياً ، بحيث يدخل المصلوب في المصلوب فيه ، كأنه ليس عليه ، بل داخل فيه . ثم يقول : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } [ طه : 71 ] أينا : المراد فرعون وموسى ، أو فرعون ورب موسى الذي أرسله { أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } [ طه : 71 ] فجمع في العذاب شدته من حيث الكيفية ، ودوامه وبقاءه في الزمن . ولم يذكر القرآن شيئاً عن تهديد فرعون ، أفعله أم لا ؟ والأقرب أنه نفّذ ما هدد به . وكان من المفروض في تهديد فرعون أن يأخذ من قلوب السَّحرة ويُرهبهم ، فيحاولون على الأقل الاعتذار عَمَّا حدث ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث ، بل قالوا ما أهاجه أكثر : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا … } .