Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 99-99)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي موضع آخر قال تعالى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ هود : 120 ] . فكأن فؤاده صلى الله عليه وسلم كان في حاجة إلى تثبيت لأنه سيتناول كل أحداث الحياة ، وسيتعرض لما تشيب لهَوْله الرؤوس ، ألم يَقُلْ الحق تبارك وتعالى عن الرسل قبله : { وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 214 ] . ألم يُضطهد رسول الله والمؤمنون ويُضربوا ويُحاصروا في الشِّعْب بلا مأوى ولا طعام ، حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر ؟ فهذه أحداث وشدائد تضطرب النفس البشرية حين تستقبلها ، ولا بُدَّ لها من تأييد السماء لتثبت على الإيمان لذلك يقصُّ الحق - تبارك وتعالى - على رسوله قصص مَنْ سبقوه في موكب الرسالات ليقول له : لست يا محمد بِدْعاً من الرسل ، فقد تحملوا من المشاق كيت وكيت ، وأنت سيدهم ، فلا بُدَّ أنْ تتحمل من المشاقِّ ما يتناسب ومكانتك ، فوطِّن نفسك على هذا . فقوله تعالى : { كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ … } [ طه : 99 ] كذلِكَ : أي : كما قصصنا عليك قصة موسى وهارون وفرعون والسامريّ نقصُّ عليك قصصاً آخر من أنباء مَنْ سبقُوك من الرسل . وأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر الهام العظيم ، فلا يُقال للأمر التافه نبأ . ومن ذلك قوله تعالى عن يوم القيامة : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } [ النبأ : 1 - 2 ] إنما يُقال " خبر " في أي شيء . ثم يقول تعالى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } [ طه : 99 ] . وأكد الإتيان بأنه { مِن لَّدُنَّا … } [ طه : 99 ] أي : من عندنا ، فلم يَقُلْ مثلاً : آتيناك ذِكْراً . وهذا له معنى لأن كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين نزلت ورُويتْ بالمعنى ، ثم صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم ، أمَّا القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي نزل بلفظه ومعناه لذلك قال { مِن لَّدُنَّا … } [ طه : 99 ] أي : مباشرة من الله لرسوله . والمتأمّل في تبليغ الرسول وتلقِّيه عن ربه يجد أنه يحافظ على لفظ القرآن ، لا يُخْفى منه حرفاً واحداً ، كما في قوله تعالى مثلاً : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فكان يكفي في تبليغ هذه العبارة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أحد ، لكنه يقول نصّ ما جاءه من ربه مباشرة . أرأيتَ لو قلت لولدك : اذهب إلى عمك وقُلْ له : أبي سيزورك غداً ، ألاَ يكفي أن يقول الولد : أبي سيزورك غداً ؟ إذن : فالقرآن الذي بين آيدينا هو نفسه كلام الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يتغير فيه حرف واحد لا بالزيادة ولا بالنقصان لأنه نصُّ الإعجاز ، وما دام نص الإعجاز فلا بُدَّ أنْ يظلَّ كما قاله الله . ومعنى { ذِكْراً } [ طه : 99 ] للذكْر معان متعددة ، فيُطلق الذكر ، ويُراد به القرآن ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . ويُطلَق ويُراد به الصِّيت والشَّرف والجاه في الدنيا ، كما في قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } [ الأنبياء : 10 ] أي : شرفكم ورِفْعتكم بين الناس ، وقال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ … } [ الزخرف : 44 ] . وقد يقول قائل : كيف يكون القرآن ذكراً وشرفاً للعرب ، وقد أبان عجزهم ، وأظهر ما فيهم من عِيٍّ ؟ وهل يكون للمغلوب صِيت وشَرف . نقول : كونهم مغلوبين للحق شهادة بأنهم أقوياء ، فالقرآن أعجز العرب وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان ، والحق - سبحانه وتعالى - حين يتحدى لا يتحدى الضعيف ، إنما يتحدى القوي ، ومن الفخر أن تقول : غلبت البطل الفلاني ، لكن أيّ فخر في أن تقول : غلبت أيّ إنسان عادي ؟ وكذلك يُطلَق الذكْر على كل كتاب أنزله الله تعالى ، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] أي : أهل الذكر قبلكم ، وهم أهل التوراة وأهل الإنجيل . ويُطلَق الذكر ، ويُراد به فعل العمل الصالح والجزاء من الله عليه ، كما قال تعالى : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ … } [ البقرة : 152 ] أي : اذكروني بالطاعة أذكركم بالخير . ويأتي الذكْر بمعنى التسبيح والتحميد ، وبمعنى التذكُّر والاعتبار ، فله - إذن - معانٍ متعددة يُحدِّدها السياق . لكن ، لماذا اختار كلمة ذكر ولم يقل مثلاً كتاباً ؟ قالوا : لأن الذكْر معناه أن تذكر الشيء بداية لأنه أمر مهم لا يُنسَى ، وهو ذِكْر لأنه يُسْتلهم ، ومن الذكر الاعتبار والتذكير ، والشيء لا يُذكر إلا إذا كان له أهمية ، هذه الأهمية تتناسب مع الأمر من حيث مُدّة أهميته ومقدار أهميته ، وكل ذكر لشيء في الدنيا قصارى أمره أنْ يعطيك خير الدنيا ، أمّا القرآن فهو الذكر الذي يعطيك خيري الدنيا والآخرة لذلك فهو أهم ذكر يجب أنْ يظلَّ على بالك لا يُنسى أبداً . إذن : فالقرآن ذِكْر ذُكر أولاً ، وذِكْر يُذكَر ثانياً ، ويستلهم ذكراً يشمل الزمن كله في الدنيا وفي الآخرة . ثم يصف الحق تبارك وتعالى هذا الذكر ، فيقول : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ … } .