Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والاقتراب : إما أن يكون زمناً أو مكاناً ، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا : اقترب للناس حسابهم يعني مكانه . وإذا كانت للزمن قلنا : اقترب زمنه . فالاقتراب : دُنُو الحدث من ظرفية زماناً أو مكاناً . والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي { ٱقْتَرَبَ … } [ الأنبياء : 1 ] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولا بُدَّ ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون : يقترب لا اقتربَ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلاً لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر عليها ، أما الإنسان فلا يملك الأحداث ، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ . ومثال ذلك في قوله تعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] فلا يُقال لك : لا تستعجل شيئاً إلا إذا كان لم يحدث بَعْد : فكيف - إذن - جمع بين الماضي { أَتَىٰ … } [ النحل : 1 ] والمستقبل { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] ؟ قالوا : أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل لأنك لا تملك نفسك ، ولا تملك ظروف المستقبل ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] . لا بُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة لأن قولك " سأفعل ذلك غداً " قضيةٌ لها عناصر : الفاعل أنت والمفعول به والزمن غداً ، والسبب الذي يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل . وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئاً منها ، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر ، وحال بينك وبين ما تريد ، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول : إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر ، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذباًَ . لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم ، ووضعتْ له الزمن المناسب ، فإنْ علمتَ حدوث الفعل قُلْ بالماضي : حضر فلان ، انتهت القضية ، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ : سيحضر فلان أي قريباً ، أو سوف يحضر أي : بعد ذلك . هذا الذي يناسب قدرة البشر . أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها ، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني ، فإنْ قال للأمر المستقبل : أتى أو اقترب فصدِّق لأنه لا شيء يُخرِج الأمر عن مراده تعالى ، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة . لذلك يقول سبحانه : { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ … } [ الأنبياء : 1 ] بصيغة الماضي ولم يقل : يقترب أو سيقترب لأن المتكلم هو الله . وقد ورد الماضي اقترب أيضاً في قوله تعالى : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] . وفي قوله تعالى { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [ العلق : 19 ] فاقترب غير قَرُب ، قرُب : يعني دنا ، أما اقترب أي : دنا جداً حتى صار قريباً منك . والحساب : كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة ، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعاً ، أو طرحاً ، أو ضَرْباً ، وتدير حصيلة لك أو عليك ، فإنْ كانت لك فأنت دائن ، وإنْ كانت عليك فأنت مدين . أو تربط المسبِّبات بأسبابها . وهناك أمور تأتي بغير حساب ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] فهذه مسألة لا تستطيع ضبطها ، والله لا يُسأل : أعطاني زيادة أم نقصاناً . أما الحساب في { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ … } [ الأنبياء : 1 ] فيقتضي مُحَاسِباً هو الله عز وجل ، ومُحاسَباً هم الناس ، ومُحَاسَباً عليه وهي الأعمال والأحداث التي أحدثوها في دنياهم ، وهذه قسمان : قسم قبل أنْ يُكلَّفوا ، وقسم بعد أن كُلِّفوا . ما كان قبل التكليف وسِنِّ البلوغ لا يحاسبنا الله عليه ، إنما تركنا نمرح ونرتع في نعمه سبحانه دون أن نسأل عن شيء ، أما بعد البلوغ فقد كلَّفنا بأشياء تعود علينا بالخير ، وألزمنا المنهج الذي يضمن سعادتنا " بافعل " و " لا تفعل " وهذا يقتضي أن نحاسب ، فعلنا ، أم لم نفعل . إذن : المسألة حساب ، ليست جُزَافاً ، جماعة في الجنة وجماعة في النار ، وقوله سبحانه في الحديث القدسي : " هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي " بِناءً على علمه تعالى بما يُؤدُّونه وقت الحساب ، ففي علم الله ما فعلوا وما تركوا . ولا تنْسَ أن المحاسب في هذا الموقف هو الله ، فإنْ كان الحساب في الخير عاملك بالفضل والزيادة كما يشاء سبحانه لذلك يضاعف الحسنات ، وإنْ كان الحساب في الشر كان على قَدْره دون زيادة ، كما قال تعالى : { جَزَآءً وِفَاقاً } [ النبأ : 26 ] . وما دام المحاسب هو الله سبحانه وتعالى ، وهو لا ينتفع بما يقضيه على الخَلْق ، فمن رحمته بِنَا ونعمته علينا أنْ حذَّرنا من أسباب الهلاك ، ولم يأخذنا على غَفْلة ، ولم يفاجئنا بالحساب على غِرّة ، إنما أبان لنا التكاليف ، وأوضح الحلال والحرام ، وأخبرنا بيوم الحساب لنستعدَّ له ، فلا نسير في الحياة على هوانا . فقال سبحانه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . فمن رحمته تعالى بعباده أنْ وعدهم هذا الوعد ، وعرفهم هذا الميزان وهم في سَعَة الدنيا ، وإمكان تدارك الأخطاء ، واستئناف التوبة والعمل الصالح ، من رحمته بنا أنْ يعِظَنا هذه الموعظة ويكررها على أسماعنا ليلَ نهارَ . إذن : ما أخذنا ربنا على غِرَّة ، ولم تُفاجئْنا القيامة بأهوالها ، فمن الآن اعلم { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ … } [ الأنبياء : 1 ] وما دام الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يُقَدِّر قَدْر الاقتراب ، ومتى سينتقل إلى يوم الحساب ، ولا تظن أن عُمرك هو عمر الدنيا منذ خلقها الله ، إنما عمرك ودنياك على قَدْر مُكْثك فيها ، وهو مُكْث مظنون غير مُتيقَّن ، فمن الخَلْق من عمَّر دهراً ، ومنهم مَنْ مات في بطن أمه . إذن : لا تُؤجِّل لأنك لا تدري ، أيمهلك الأجل حتى تتوب ؟ أم يُعاجلك فتُؤخذ بذنبك ؟ والحق سبحانه يقول : { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ . . } [ الأنبياء : 1 ] مع أن الساعة ما زالت بعيدة ، وبيننا وبين القيامة مَا لا يعلمه إلا الله . فكيف ذلك ؟ قالوا : لأن الحساب إنما يكون على الأعمال ، والأعمال لها وقت هو الدنيا ، فَمنْ مات فقد انقطع عمله ، واقترب وقت حسابه لأن المدة التي يقضيها في القبر لا يشعر بها ، فكأنها ساعة من نهار . فإنْ قُلْت : من الناس مَنْ يعيش مائة عام ، ومائة وخمسين عاماً . نقول : هذا شيء ظنيّ لا نضمنه ، والإنسان عُرضة للموت في أيِّ لحظة لسبب أو دون سبب . ونلحظ في قوله تعالى : { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ … } [ الأنبياء : 1 ] فقال للنَّاسِ مع أن الحساب لهم وعليهم ، فهل معنى للناس أي : لمصلحتهم ؟ لا يبدو ذلك لأنه قال بعدها : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] . إذن : الحساب ليس في مصلحتهم إنما الحساب عليهم ، إذن : كيف يكون ف مثل هذا السياق { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ … } [ الأنبياء : 1 ] ما دام الأمر على الكفار ؟ كان المفروض أن يقول : اقترب على الناس حسابهم . نقول : هذا إذا أخذتَ اللام للحساب ، إنما اللام هنا للاقتراب ، لا للحساب ، أي : اقترب من الناس ، إنما الحساب لهم أو عليهم ، هذه مسألة أخرى . وقوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] الغفلة معناها : زحزحة الشيء عن بالٍ الواجب أَلاَّ يزحزح عنه ، فكان الواجب أنْ يتذكره ولا يغفل عنه ، والغفلة غير النسيان لأن الغفلة أن تهمل مسألة كان يجب ألاَّ تهمل ، وألاَّ تغيب عن بالك ، أما النسيان فخارج عن إرادتك . وغفلتهم هنا عن أصل وقمة الدين ، وهو الإيمان بالألوهية ، فإن آمنتَ بالألوهية فالغفلة عن الأحكام التي جاء بها الدين ، وهذه هي المعاصي ، والكلام هنا عن الكافرين بدليل قوله بعدها : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ … } [ الأنبياء : 2 ] والغفلة عن الربِّ الأعلى مثلها الغفلةَ عن حكم الرب الأعلى ، وفَرْق بين غَفْلة وغَفْلة . وقد حدَّثَ النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن هذه الغفلة ، كما روى سيدنا حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر . حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذَرْ قلوب الرجال والأمانة هي الإيمان الحق بالله ، أي : حَلَّ الإيمان ، واستقر في القلب ، ونطقنا بالشهادة ثم نزل القرآن ، فعلموا من القرآن ، وعلموا من السُّنة ثم حدَّثنا عن رَفْع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة ، فتُقبض الأمانة من قلبه أي : يغفل الغفلة فيظل أثرها مثل أثر الوكت الوكت : مثل سيجارة مثلاً تقع على الجلد فلسعته ، فيتغير لونه ثم ينام النومة أي : مرة أخرى فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر المجل والمجل : جمرة النار فنفط فتراه منتبراً عالياً ، وليس به شيء أي : انتفخ فيصبح الناس أي : بعد رفع الأمانة يتبايعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً لندرة الأمانة بين الناس . ثم يقول الراوي : وقد مر عليَّ زمان ما كنت أبالي أيكُم بايعت ، فلئن كان مسلماً ليردنَّه عليَّ دينه يعني : إنْ غشَّني في شيء أو حدث خطأ ما في البيع ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنَّه عليَّ ساعيه أي : الناس المكلفون بمراقبة الأسواق ، وهم أهل الحِسْبة ، فإنْ رأَوْا غِشّاً منعوه ، وردوا إلى صاحب الحق حقه وأما الآن فأنا لا أكاد أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً فإنْ كان هذا في أيامهم فما بال أيامنا ؟ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " أي : رَغْم كثرتها لا تجد فيها جملاً يحمل رَحْلك ويحملك . وفي رواية أخرى : " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عوداً " أي : كنسج الحصير ، عُوداً بعد عود ، حتى تتم الحصيرة ، ثم يكون الرَّان على القلب . فغفْلة هؤلاء غَفْلة عن القمة ، وعن الألوهية ، لا عن التكاليف لأنهم ليسوا مؤمنين بالمكلّف سبحانه . وقوله تعالى : { مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] تدل على الافتعال أي : أنهم مفتعلون هذا الإعراض ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ … } .