Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ … } [ الأنبياء : 30 ] يعني : أعميتْ أبصارهم ، فلم ينظروا إلى هذا الكون البديع الصنع المحكم الهندسة والنظام ، فيكفروا بسبب أنهم عَمُوا عن رؤية آيات الله . وهكذا كما رأيت الهمزة بعد الواو والفعل المنفي . لكن كيف يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ … } [ الأنبياء : 30 ] والحديث هنا عن السماء والأرض ، وقد قال تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] ؟ فهذه مسألة لم يشهدها أحد ، ولم يخبرهم أحد بها ، فكيف يروْنَها ؟ سبق أن تكلمنا عن الرؤية في القرآن ، وأن لها استعمالات مختلفة : فتارة تأتي بمعنى : نظر أي : بصرية . وتأتي بمعنى : علم ، ففي قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة ولم يشهدها لأنه وُلِد في نفس عامها ، فالمعنى : ألم تعلم ، فلماذا عَدلَ السياق عن الرؤية البصرية إلى الرؤية العلمية ، مع أن رؤية العين هي آكد الرُّؤى ، حتى أنهم يقولون : ليس مع العَيْن أيْن ؟ قالوا : لأن الله تعالى يريد أن ينبه رسوله صلى الله عليه وسلم : أنت صحيح لم ترهَا بعينيك ، لكن ربك أخبرك بها ، وإخبار الله أصدق من رؤية عينيك ، فإذا أخبرك الله بشيء فإخبار الله أصدقُ من رؤية العين ، فالعين يمكن أنْ تخدعك ، أو ترى بها دون أنْ تتأمل . أما إخبار الله لك فصادقٌ لا خداعَ فيه . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] . لكن ، كيف تمَّتْ الرؤية العلمية لهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض ؟ قالوا : لأن الإنسانَ حين يرى هذا الكون البديع كان يجب عليه ولو بغريزة الفضول أنْ يتساءلَ : من أين جاء هذا الكون العجيب ؟ والإنسان بطبعه يلتفت إلى الشيء العجيب ، ويسأل عنه ، وهو لا يعنيه ولا ينتفع به ، فما بالُكَ إنْ كان شيئاً نافعاً له ؟ إذن : كان عليهم أن ينظروا : مَنِ الذي نبَّأَ رسول الله بهذه المسألة ؟ خاصة وقد كانوا يسألون عنها ، وقد جاءهم رسول الله بمعجزة تُثبِت صدقه في البلاغ عن الله ، وتُخبرهم بما كانوا يبحثون عنه ، وما دام الكلام من الله فهو صدق : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [ النساء : 122 ] . وقد نزل القرآن وفي جزيرة العرب كفار عُبَّاد أصنام ، وفيها اليهود وبعض النصارى ، وهما أهل الكتاب يؤمنون بإله وبرُسُل وبكتب ، حتى إنهم كانوا يجادلون الكفار الوثنيين يقولون لهم : لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم . ومع ذلك ، لما جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به ، والتحموا بالكفار ، وكوَّنوا معهم جبهة واحدة ، وحزباً واحداً ، ما جمعهم إلا كراهية النبي ، وما جاء به من الدين الحق ، وما أشبهَ هذا بما يفعله الآن كُلٌّ من المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي من اتحاد ضد الإسلام . إذن : بعد أنْ جاء الإسلام أصبح أهلُ الكتاب والكفار ضد الإسلام في خندق واحد ، وكان الكفار يسمعون من أهل الكتاب ، وفي التوراة كلام عن خَلْق السماء والأرض يقول : إن الله أول ما خلق الخَلْق خلق جوهرة ، ثم نظر إليها نظرَ الهيبة فحصل فيها تفاعل وبخار ودخان ، فالدخان صعد إلى أعلى فكوَّنَ السماء ، والبقية ظلتْ فكوَّنت الأرض . وهكذا كان لديهم طرف من العلم عن مسألة الخَلْقِ لذلك قال الله عنهم : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا … } [ الأنبياء : 30 ] . وقد كان للمستشرقين كلام حول قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً … } [ الأنبياء : 30 ] قالوا : السماوات جمع ، والأرض كذلك جنس لها جمع ، فالقاعدة تقتضي أنْ نقول : كُنَّ رتقاً بضمير الجمع . وصاحب هذا الاعتراض لم يَدْر أن الله سبحانه وتعالى نظر إلى السماء كنوع والأرض كنوع ، فالمراد هنا السماوية والأرضية وهما مُثنَّى . وفي القرآن نظائر كثيرة لهذه المسألة لأن القرآن جاء بالأسلوب العربي المبنيّ على الفِطنة والذكاء ومُرونة الفهم . فخُذْ مثلاً قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا … } [ الحجرات : 9 ] . فلم يقُلْ حسْب الظاهر : اقتتلتَا لأن الطائفة وإنْ كانت مفرداً إلا أنها تحوي جماعة ، والقتال لا يكون بين طائفة وطائفة ، إنما بين أفراد هذه وأفراد هذه ، فالقتال ملحوظ فيه الجمع { ٱقْتَتَلُواْ … } [ الحجرات : 9 ] فإذا ما جِئْنا للصُّلْح نرى أن الصُّلْحَ لا يتم بين هؤلاء الأفراد ، وإنما بين ممثل عن كل طائفة ، فالصُّلْح قائم بين طرفين لذلك يعود السياق للتثنية . { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ … } [ الحجرات : 9 ] . والرَّتْق : الشيء الملتحم الملتصق ، ومعنى { فَفَتَقْنَاهُمَا … } [ الأنبياء : 30 ] أي : فَصلَنْاهما وأزَحْنَا هذا الالتحام ، وما ذُكِر في التوراة من أن الله تعالى خلق جوهرة ، ثم نظر إليها في هَيْبة ، فحصل لها كذا وكذا في القرآن له ما يؤيده في قوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً … } [ فصلت : 11 ] . والعلماء ساعةَ يستقبلون الآية الكونية لهم فيها مذاهب اجتهادية مختلفة لأنها تتعرَّض لحقيقة الكون ، وهذا أمر قابل للخلاف ، فكلُّ واحد منهم يأخذ منه على قَدْر ثقافته وعِلْمه . فالعربي القديم لم يكُنْ يعرف كثيراً عن الظواهر الكونية ، لا يعرف الجاذبية ، ولا يعرف كُروية الأرض ولا حركتها ، فلو أن القرآن تعرَّض لمثل هذه الأمور التي لا يتسع لها مداركه وثقافته فلربما صرفه هذا الكلام الذي لا يفهمه ، ولك أنْ تتصوَّر لو قلتَ له مثلاً : إن الأرض كرة تدور بنا بما عليها من بحار وجبال الخ . والقرآن بالدرجة الأولى كتاب منهج " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " لذلك كلُّ ما يتعلق بهذا المنهج جاء واضحاً لا غموض فيه ، أمَّا الأمور الكونية التي تخضع لثقافات البشر وارتقاءاتهم الحضارية فقد جاءت مُجْملةً تنتظر العقول المفكرة التي تكشف عن هذه الظواهر واحدةً بعد الأخرى ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مجرد إشارة ، وعلى العقول المتأمّلة أنْ تُكمِلَ هذه المنظومة . وقد كان لعلماء الإسلام موقفان في هذه المسألة ، كلاهما ينطلق من الحب لدين الله ، والغرام بكتابه ، والرغبة الصادقة في إثبات صدْق ما جاء به القرآن من آيات كونية جاء العلم الحديث ليقول بها الآن ، وقد نزل بها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان . الموقف الأول : وكان أصحابه مُولعين بأنْ يجدوا لكل اكتشاف جديداً شاهداً من القرآن ليقولوا : إن القرآن سبق إليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق في بلاغه عن الله . الموقف الثاني : أما أصحاب الموقف الآخر فكانوا يتهيَّبون من هذه المسألة خشية أن يقولوا بنظرية لم تثبت بَعْد ، ويلتمسون لها شاهداً من كتاب الله ، ثم يثبُت بطلانها بعد أنْ ربطوها بالقرآن . والموقف الحق أن هناك فرقاً بين نظرية علمية ، وحقيقة علمية ، فالنظرية مسألة محلّ بحث ومحلّ دراسة لم تثبت بَعْد لذلك يقولون : هذا كلام نظري أي : يحتاج إلى ما يؤيده من الواقع ، أمّا الحقيقة العلمية فمسألة وقعتْ تحت التجربة ، وثبت صدقها عملياً ووثقنا أنها لا تتغير . فعلينا - إذن - أَلاَّ نربط القرآن بالنظرية التي تحتمل الصدق أو الكذب ، حتى لا يتذبذب الناس في فَهْم القرآن ، ويتهمونا أننا نُفسِّر القرآن حَسْب أهوائنا . أمّا الحقيقة العلمية الثابتة فإذا جاءت بحيث لا تُدفَع فلا مانعَ من ربطها بالقرآن . من ذلك مسألة كروية الأرض ، فعندما قال بها العلماء اعترض كثيرون وأثاروها ضجة وألَّفوا فيها كتباً ، ومنهم مَنْ حكم بكفر مَنْ يقول بذلك لأن هذه المسألة لم ينص عليها القرآن . فلما تقدم العلم ، وتوفرتْ له الأدلة الكافية لإثبات هذه النظرية ، فوجدوا الكواكب الأخرى مُدوَّرة كالشمس والقمر ، فلماذا لا تكون الأرض كذلك ؟ ! كذلك إذا وقفتَ مثلاً على شاطئ البحر ، ونظرتَ إلى مركب قادم من بعيد لا ترى منها إلا طرفَ شراعها ، ولا ترى باقي المركب إلا إذا اقتربتْ منك ، عَلامَ يدلُّ ذلك ؟ هذا يدل على أن سطح الأرض ليس مستوياً ، إنما فيه تقوُّس وانحناء يدل على كُرويتها . فلما جاء عصر الفضاء ، وصعد العلماء للفضاء الخارجي ، وجاءوا للأرض بصور ، فإذا بها كُروية فعلاً ، وهكذا تحولتْ النظرية إلى حقيقة علمية لا تُدفع ، ولا جدال حولها ، ومَنْ خالفها حينما كانت نظرية لا يسعه الآن إلاّ قبولها والقول بها . وما قلناه عن كُروية الأرض نقوله عن دورانها ، ومَنْ كان يصدق قديماً أن الأرض هي التي تدور حول الشمس بما عليها من مياه ومَبانٍ وغيره ؟ ولك أن تأخذَ كوزاً ممتلئاً بالماء ، واربطه بخيط من أعلى ، ثم أَدِرْه بسرعة من أسفل إلى أعلى ، تلاحظ أن فوهة الكوز إلى أسفل دون أنْ ينسكب الماء ، لماذا ؟ لأن سرعة الدوران تفوق جاذبية الأرض التي تجذب الماء إليها ، بدليل أنك إذا تهاونتَ في دوران الكوز يقع الماء من فُوهته ، ولا بُد من وجود تأثير للجاذبية ، فجاذبية الأرض هي التي تحتفظ بالماء عليها أثناء دورانها . أما أن نلتقط نظرية وليدة في طََوْر البحث والدراسة ، ثم نفرح بربطها بالقرآن كما حدث أوائل العصر الحديث والنهضة العلمية ، حين اكتشف العلماءُ المجموعةَ الشمسية ، وكانت في بدايتها سبعة كواكب فقط مُرتّبة حسب قُرْبها من الشمس في المركز : عطارد ، فالزهرة ، فالأرض ، فالمريخ ، فالمشتري ، فزُحَل ، فأورانوس . وهنا أسرع بعض علمائنا الكبار - منهم الشيخ المراغي - بالقول بأنها السماوات السبع ، وكتبوا في ذلك بحوثاً ، وفي القرآن الذي سبق إلى هذا . ومرَّتْ الأيام ، واكتشف العلماء الكواكب الثامن نبتون ، ثم التاسع . إذن : رَبْط النظرية التي لم تتأكد بَعْد علمياً بالقرآن خطأ كبير ، ومن الممكن إذا توفَّر لهم أجهزةٌ أحدث ومجاهر أكبر - كما يقول بعض علماء الفضاء - لاكتشفوا كواكب أخرى كثيرة ، لأن مجموعتنا الشمسية هذه واحدة من مائة مليون مجموعة في المجرة التي نسميها سكة التبَّانة ، والإغريق يسمونها الطريق اللبني . وهذه الكواكب التي نراها كبيرة وعظيمة ، لدرجة تفوق تصورات الناس ، فالشمس التي نراها هذه أكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة ، وهناك من الكواكب ما يمكنه ابتلاع مليون شمس في جوفه . والمسافة بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية ، وتُحسب الدقيقة الضوئية بأن تُضرب في ستين ثانية ، الثانية الواحدة السرعة فيها 186 ألف ميل يعني : ثلاثمائة ألف كيلومتر . أما المسافة بين الأرض والمرأة المسلسلة فقد حسبوها بالسنين الضوئية لا الدقائق ، فوجدوها مائة سنة ضوئية ، أما الشِّعْرى الذي امتنَّ الله به في قوله { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } [ النجم : 49 ] فهو أبعد من ذلك . وهذه الكواكب والأفلاك كلها في السماء الدنيا فقط ، فما دَخْل هذا بالسماوات السبع التي تحدثوا عنها ؟ ! لذلك حاول كثيرون من عُشَّاق هؤلاء العلماء أن يمحوا هذه المسألة من كتبهم ، حتى لا تكون سُبَّة في حقِّهم وزلّة في طريقهم العلمي . كذلك من النظريات التي قالوا بها وجانبتْ الصواب قولهم : إن المجموعة الشمسية ومنها الأرض تكوَّنت نتيجة دوران الشمس وهي كتلة ملتهبة ، فانفصل عنها بعض طراطيش ، وخرج منها بعض الأجزاء التي بردتْ بمرور الوقت ، ومنها تكونت الأرض ، ولما بردتْ الأرض أصبحتْ صالحة لحياة النبات ، ثم الحيوان ، ثم الإنسان بدليل أن باطن الأرض ما يزال ملتهباً حتى الآن . وتتفجر منه براكين كبركان فيزوف مثلاً . والقياس العقلي يقتضي أن نقول : إذا كانت الأرض قطعة من الشمس وانفصلت عنها ، فمن الطبيعي أن تبرد مع مرور الزمن وتقلّ حرارتها حتى تنتهي بالاستطراق الحراري ، إذن : فهذه نظرية غير سليمة ، وقولكم بها يقتضي أنكم عرفتم شيئاً عن خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ما أخبر الله به ، وقد قال تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الكهف : 51 ] . ثم يقول في آية جامعة { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . والمضلّ هو الذي يأخذ بيدك عن الحقيقة إلى الباطل ، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ما سيكون من أقوال مُضلِّلة في هذه المسألة تقول : حدث في الخلق كيت وكيت . والواجب علينا أن نأخذ هذه التفاصيل من الخالق - عز وجل - وأن نقف عند هذا الحد ، لأن معرفتك بكيفية الشيء ليست شرطاً لانتفاعك به ، فأنت تنتفع بمخلوقات الله وإن لم تفهم كيف خُلِقَتْ ؟ وكيف كانت ؟ انتفعنا بكروية الأرض وبالشمس وبالقمر دون أن نعرف شيئاً عنها ، ووضع العلماء حسابات للكسوف وللخسوف والأوقات قبل أن تكتشف كروية الأرض . فالرجل الأميّ الذي لا يعلم شيئاً يشتري مثلاً " التليفزيون " ويتعلم كيفية تشغيله والانتفاع به ، دون أنْ يعلم شيئاً عن تكوينه أو كيفية عمله ونَقْله للصورة وللصوت … إلخ . فخُذْ ما في الكون من جمال وانتفع به كما خلقه الله لك دون أن نخوض في أصل خَلْقه وكيفية تكوينه ، كما لو قُدِّم لك طعام شهيّ أتبحثُ قبل أن تأكل : كيف طُهِي هذا الطعام ؟ ! وقد تباينتْ آراء العلماء حول هذه الآية ومعنى الرَّتْق والفَتْق ، فمنهم مَنْ قال بالرأي الذي قالتْه التوراة ، وأنها كانت جوهرة نظر الله إليها نظرة المهابة ، وحدث لها كذا وكذا ، وتكوَّنت السماء والأرض . ومنهم مَنْ رأى أن المعنى خاصٌّ بكل من الأرض والسماء ، كل على حِدَة ، وأنهما لم يكونا أبداً ملتحمتين ، واعتمدوا على بعض الآيات مثل قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } [ عبس : 24 - 28 ] . وفي موضع آخر قال : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 11 - 12 ] . فالمراد - إذن - أن الأرض وحدها كانت رَتْقاً ، فتفجرت بالنبات ، وأن السماء كانت رتْقاً فتفجرت بالمطر ، فشقَّ الله السماء بالمطر ، وشَقّ الأرض بالنبات الذي يصدعها : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ * وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } [ الطارق : 11 - 12 ] . وقال عن السماء : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ … } [ الفرقان : 25 ] على اعتبار أن السماء كُلُّ ما علاك فأظلّك ، فيكون السحاب من السماء . نفهم من هذا الرأي أن الفَتْق ليس فَتْقَ السماء عن الأرض ، إنما فتق كل منهما على حِدَة ، وعلى كل حال هو فَهْم لا يُعطي حكماً جديداً ، واجتهاد على قَدْر عطاء العقول قد تُثبته الأيام ، وقد تأتي بشيء آخر ، المهم أن القوليْن لا يمنع أحدُهما الآخر . وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ … } [ الأنبياء : 30 ] قال أصحاب التأويل الثاني : ما دام ذكر هنا الماء ، فلا بُدَّ أن له صلة بالرَّتْق والفَتْق في كل من الأرض والسماء . ونلحظ أن الآية لم تَقُلْ : كل شيء حيَّا ، إنما { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ … } [ الأنبياء : 30 ] وقد استدلوا بها على أن الحيَّ المراد به الحياة الإنسانية التي نحياها ، ولم يفطنوا إلى أن الماء داخلٌ في تكوين كل شيء ، فالحيوان والنبات يحيا على الماء فإنْ فَقَد الماء مات وانتهى ، وكذلك الأدنى من الحيوان والنبات فيه مائية أيضاً ، فكُلُّ ما فيه لمعة أو طراوة أو ليونة فيه ماء . فالمعنى { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ … } [ الأنبياء : 30 ] أي : كل شيء مذكور موجود . والتحقيق العلمي أن لكل شيء حياةً تناسبه ، وكل شيء فيه ماء ، بدليل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] . والحق سبحانه يخاطبهم وهم أحياء ، إذن : يحييكم أي : حياة أخرى لها قيمة لأن حياتكم هذه قصاراها الدنيا ، إنما استجيبوا لحياة أخرى خالدة هي حياة الآخرة . وسُمِّي الشيء الذي يتصل بالمادة ، فتدبّ فيها الحياة روحاً ، فقال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي … } [ الحجر : 29 ] . وسُمِّي المنهج الذي ينزل من السماء لهداية الأرض روحاً ، وسُمّي الملَك الذي ينزل به روحاً لأنه يعطينا حياة دائمة باقية ، لا فناء لها ، وهكذا يتم الارتقاء بالحياة . فإذا نزلنا أدنى من ذلك وجدنا للحيوان حياة ، وللنبات حياة ، فالحيوان يَنْفَق ويموت ، والنبات إنْ منعتَه الماء جَفَّ وذَبُل وانتهى . أما الجماد فله حياة أيضاً ، بدليل قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . فوَصَف كل ما يقال له شيء بأنه هالك ، والهلاك ضد الحياة ، فلا بُدَّ أن تكون له حياة ، ألم تقرأ قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } [ الأنفال : 42 ] فالحياة ضِدُّها الهلاك . إذن : فكل شيء في المخلوقات حتى الجماد له حياة ، وفي تكوينه مائية ، كما قال سبحانه : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ … } [ الأنبياء : 30 ] . ويختتم سبحانه هذه الآية بقوله : { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] يعني : أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها ، وامتنعوا عن الإيمان ؟ فكان يجب عليهم أنْ يلتفتوا إلى هذه الآيات العجيبة والنافعة لهم ، كيف والبشر الآن يقفون أمام مخترع أو آله حديثة أو حتى لُعبة تبهرهم فيقولون : مَنْ فعل هذه ؟ ويُؤرِّخون له ولحياته ، وتخرَّج في كلية كذا … إلخ . فمن الأَوْلى أنْ نلتفتَ إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون ، فالانصراف - إذن - عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول . يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ … } .