Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 78-78)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يحكمان تعني أن هناك خصومة بين طرفين ، والحرْث : إثارة الأرض وتقليب التربة لتكون صالحة للزراعة ، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله تعالى : { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } [ البقرة : 205 ] . والحرْث ذاته لا يهلك ، إنما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار ، فسمَّى الزرع حَرْثاً لأنه ناشىء عنه ، كما في قوله تعالى أيضاً : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ … } [ آل عمران : 117 ] . لكن ، لماذا سَمَّى الحرْث زَرْعاً ، مع أن الحَرْث مجرد إعداد الأرض للزراعة ؟ قالوا : لُيبيِّن أنه لا يمكن الزرع إلا بحرْث لأن الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض ، وهذه العملية تساعد على إدخال الهواء للتربة وتجفيفها من الماء الزائد لأن الأرض بعد عملية الريِّ المتكررة يتكوَّن عليها طبقة زَبَدية تسدُّ مسَام التُّربة ، وتمنع تبخُّر المياه الجوفية التي تُسبِّب عطباً في جذور النبات . لذلك ، ليس من جَوْدة التربة أن تكون طينية خالصة ، أو رملية خالصة ، فالأرض الطينية تُمسك الماء ، والرملية يتسرَّب منها الماء ، وكلاهما غير مناسب للنبات ، أما التربة الجيدة ، فهي التي تجمع بين هذه وهذه ، فتسمح للنبات بالتهوية اللازمة ، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته . لذلك سَمَّى الزرْع حَرْثاً لأنه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته ، وليُلفت أنظارنا أنه لا زَرْع بدون حَرْث ، كما جاء في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] . ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله في الكون ، هي أنك لا بُدَّ أن تعمل لتنال ، فربُّك وخالقك قدَّم لك العطاء حتى قبل أنْ تُوجد ، وقبل أن يُكلِّفك بشيء ، ومكثت إلى سنِّ البلوغ ، تأخذ من عطاء الله دون أنْ تُحاسبَ على شيء من تصرفاتَك . وكذلك الأمر في الآخرة سيعطيك عطاءً لا ينتهي ، دون أن تتعب في طلبه ، هذا كُلُّه نظير أنْ تطيعه في الأمور الاختيارية في سِنِّ التكليف . إذن : لقد نِلْتَ قبل أن تعمل ، وستنال في الآخرة كذلك بدون أنْ تعمل ، فلا بُدَّ لك من العمل بين بدايتك ونهايتك لتنال الثمرة . لذلك ، في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " أَعْطُوا الأجير أجره قبل أنْ يجفَّ عَرَقُه " ما دام قد عمل فقد استحق الأجر ، والأمر كذلك في مسألة الحرث . ثم يقول تعالى : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ … } [ الأنبياء : 78 ] هذه خصومة بين طرفين ، احتكما فيها لداود عليه السلام : رجل عنده زرع ، وآخر عنده غنم ، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزرع ، فاشتكى صاحبُ الزرع صاحبَ الغنم لداود ، فحكم في هذه القضية بأن يأخذَ صاحبُ الزرعِ الغنَم ، وربما وجد سيدنا داود أن الزرع الذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها . فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان - عليه السلام - وكان في الحادية عشرة من عمره ، وعرف منهما حكومة أبيه في هذه القضية ، فقال : غير هذا أرفق بالفريقين فسمَّى حُكْم أبيه رِفْقاً ، ولم يتهمه بالجَوْر مثلاً ، لكن عنده ما هو أرفق . فلما بلغت مقالته لأبيه سأله : ما الرِّفق بالفريقين ؟ قال سليمان : نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها ، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتى تعود كما كانت ، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه ، وصاحب الزرع زَرْعه . ومعنى { نَفَشَتْ … } [ الأنبياء : 78 ] نقول : نفش الشيء أي : أخذ حَجْماً فوق حَجْمه ، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز أو البقسماط ووضعتَها في لبن أو ماء ، تلاحظ أنها تنتفش ويزداد حجمها نقول : انتفشت ، كما نقول لمن يأخذ حجماً أكثر من حجمه : " أنت نافش ريشك " . وقوله تعالى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] أي مراقبين . يقول الحق سبحانه : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا … } .