Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 79-79)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فداود وسليمان - عليهما السلام - نبيان ، لكل منهما مكانته ، وقد أعطاهما الله حُكْماً وعلماً ، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضية ، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود ، ولا يطعن في حُكْمه . وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى ، ومحكمة درجة ثانية ، ومحكمة النقْض ، ومحكمة الاستئناف ، وإياك أن تظن أن محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء درجة أولى أنها تطعن فيها . فهذا مثل قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ … } [ الأنبياء : 79 ] فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه لذلك فالقاضي الابتدائي قد يحكم في قضية ، ويتم تأجيلها إلى أنْ يترقى إلى قاضي استئناف ، فيقرأ نفس القضية لكن بنظرة أخرى ، فيأتي حُكْمه غير الأول . ثم يقول تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ … } [ الأنبياء : 79 ] حينما جمع السياق القرآني بين داود وسليمان أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفاً مِمَّا وهبهما الله ، فقوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ … } [ الأنبياء : 79 ] مظهر من مظاهر امتيازه ، وهنا يُبيِّن مَيْزةً لداود عليه السلام : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ … } [ الأنبياء : 79 ] . والتسخير : قَهْر المسَخّر على فعل لا يستطيع أنْ ينفكَّ عنه ، وليس مختاراً فيه ، ونلحظ هنا الارتقاء من الأَدْنى إلى الأعلى : أولاً : سخّر الجبال وهي جماد ، ثم الطير وهي أرْقَى من الجماد ، لكن إنْ تصوَّرْنا التسبيح من الطير لأنه حَيٌّ ، وله روح ، وله حركة وصوت مُعبّر ، فكيف يكون التسبيح من الجبال الصماء ؟ بعض العلماء حينما يستقبلون هذه الآية يأخذونها بظواهر التفسير ، لا بُعمْق ونظر في لُبِّ الأشياء ، فالجبال يروْنها جامدة ، ليس لها صوت مُعبّر كما للطير لذلك يعجبون من القول بأن الجبال تُسبِّح ، فكيف لها ذلك وهي جمادات ؟ لكن ما العجب في ذلك ، وأنت لو قُمْتَ بمَسْح شامل لأجناس الناس الأرض ، واختلاف لغاتهم وألسنتهم وأشكالهم وألوانهم بحسْب البيئات التي يعيشون فيها ، فالناس مختلفون في مثل هذه الأمور متفقون فقط في الغرائز ، فالجوع والعطش والخوف والضحك والعواطف كلها غرائز مشتركة بين جميع الأجناس ، وهذه الغرائز المشتركة ليس فيها اختيار . ألم تَرَ إلى قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } [ النجم : 43 ] فما دام أنه سبحانه الذي يُضحِك ، والذي يُبكِي ، فلن نختلف في هذه الأمور . فالكلام - إذن - من الأشياء التي يختلف فيها الناس ، وهذا الاختلاف ليس في صوت الحروف ، فالحروف هي هي ، فمثلاً حين ننطق شرشل ينطقها أهل اللغات الأخرى كذلك : شين وراء وشين ولام ، فنحن - إذن - متحدون في الحروف ، لكن نختلف في معاني الأشياء . وقد يعزّ على بعض الحناجر أن تنطقَ ببعض الحروف بطبيعة تكوينها ، فغيْر العربي لا ينطق الضاد مثلاً ، فليس عندهم إلا الدال ، أما في العربية فعندنا فَرْق بين الدال المرقّقة والضاد المفخّمة ، وفرْق بين السين والثاء ، وبين الزاي والذال ، وبين الهمزة والعَيْن ، لذلك نجد غير العربي يقول في على : ألي ، فليس له قدرة على نُطْق العين ، وهو إنسان ناطق بلغة ومُتكلِّم . فإذا كنا - نحن البشر - لا يفهم بعضُنا لغاتِ بعض ، فهذا عربي ، وهذا إنجليزي ، وهذا فرنسي … إلخ فإذا لم تتعلم هذه اللغة لا تفهمها . ومعلوم أن اللغة بنت المحاكاة وبنت السماع ، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان ، والأبكم الذي لا يتكلم كان أصمَّ لا يسمع ، والطفل ينطق بما سمع ، فلو وُضِع الطفل الإنجليزي في بيئة عربية لنطق بالعربية … وهكذا . فلماذا نعجب حين لا نفهم لغة الطَّيْر أو لغة الجمادات ، وهي أشياء مختلفة عنّا تماماً ، فلا يعني عدم فَهْمِنا للغاتهم أنهم ليست لهم لغة فيما بينهم يتعارفون عليها ويُعبِّرون بها . إذن : لا تستبعد أنْ يكونَ للأجناس الأَدْنى منك لغات يتفاهمون بها وأنت لا تفهمها ، بدليل أن الله تعالى أعطانا صورةً من لغات الطير ، وهذه يعلمها مَنْ علَّمه الله ، كما امتنَّ الله على سليمان وعلَّمه لغة الطير ، ففهم عنها وخاطبها . وقد حكى الحق سبحانه وتعالى عنه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ … } [ النمل : 16 ] ولولا أن الله علَّمه لغة الطير ما عَلِمها . وها هو الهدهد يقول لسليمان عليه السلام لما تفقَّد الطير ، ولم يجد الهدهد فتوعَّده : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] . ونلحظ هنا دِقَّة سليمان - عليه السلام - في استعراض مملكته ، فلم يترك شيئاً حتى الهدهد ، ونلحظ أدبه في قوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } [ النمل : 20 ] فقد اتهم نظره وشَكَّ أولاً ، فربما الهدهد يكون موجوداً ، ولم يَرَهُ سليمان . وانظر إلى قَوْل الهدهد للملك : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ … } [ النمل : 22 ] ثم معرفته الدقيقة بقضية التوحيد والعقائد : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ النمل : 24 ] . ويعترض الهدهد على هذا الشرك ، ويردُّ عليه بشيء خاص به ، وبظاهرة تُهمه : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النمل : 25 ] . فاختار الهدهد مسألة إخراج الخبْء لأن منه طعامه ، فلا يأكل من ظاهر الأرض ، بل لا بُدَّ أنْ ينبشَ الأرض ، ويُخرِج خبأها ليأكله . وكذلك النمل ، وهو أقلُّ من الهدهد ، فقد كان للنملة مع سليمان لغة ، وكلام ، وفَهْم عنها : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا … } [ النمل : 19 ] . إذن : كان الكلام للنمل ، لكنْ فَهمه سليمان لذلك قال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ … } [ النمل : 19 ] . ذلك لأننا لا نفهم هذه اللغات إلا إذا فَهَّمنا الله إياها . ومع هذا حينما وقف العلماء أمام هذه الآية { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ . . } [ الأنبياء : 79 ] قالوا : يعني تسبيح دلالة ، فهي بحالها تدلُّ على الخالق سبحانه ، وليس المراد التسبيح على حقيقته ، وأَوْلى بهم أنْ يعترفوا لها بالتسبيح لكنه تسبيح لا نفهمه نحن ، كما قال تعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات ، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات ، وإلا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل ؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث . والمزيّة التي أعطاها الله تعالى لنبيه داود - عليه السلام - ليستْ في تسبيح الجبال لأن الجبال تُسبِّح معه ومع غيره ، إنما الميزة في أنها تُردِّد معه ، وتوافقه التسبيح ، وتجاوبه ، فحين يقول داود : سبحان الله تردد وراءه الجبال : سبحان الله ، وكأنهم جميعاً كورس يردد نشيداً واحداً . وليس معنى الجماد أنه جامد لا حياةَ فيه ، فهو جماد من حيث صورة تكوينه ، ولو تأمَلتَ المحاجر في طبقات الأرض لوجدت بين الأحجار حياة وتفاعلاً وحركةً منذ ملايين السنين ، ونتيجة هذه الحركة يتغير لَوْنُ الحجر وتتغير طبيعته ، وهذا دليل الحياة فيها ، انظر مثلاً لو دهنتَ الحجرة لَوْناً معيناً تراه يتغير مع مرور الزمن ، إذن : في هذه الجمادات حياة ، لكن لا ندركها . وسبق أن أشرنا إلى أن الذين يقولون في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبَّح الحصى في يده . أن هذه المقولة غير دقيقة تحتاج إلى تنقيح عقلي ، فالحجر مُسبِّح في يد رسول الله ، وفي يد أبي جهل ، إذن : قل : إن المعجزة هي أن رسول الله سمع تسبيح الحصى في يده . فما من شيء في كون الله إلا وله حياة تناسبه ، وله لغة يُسبِّح الله بها ، أدركناها أم لم ندركها لأن الكلام فرع وجود حياة ، وكل شيء في الوجود له حياة ، فعلبة الكبريت هذه التي نستعملها يقول العلماء : إن بين ذراتها تفاعلات تكفي لإدارة قطار حول العالم . هذه التفاعلات دليل حركة وحياة . ألم يقُلْ الحق سبحانه وتعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . فكلُّ ما يقال له شيء - إلا وَجْه الله - هالك ، والهلاك يعني أن فيه حياةً لأن الهلاك ضد الحياة ، كما جاء في قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] . فكُلُّ شيء في الوجود له حياة بقانونه ، وليس من الضروري أن تسمع الكلام حتى تعترف بوجوده ، فهناك مثلاً لغة الإشارة ، وهي لغة مفهومة ومُعبِّرة ، أَلاَ ترى مثلاً إلى الخادم ينظر إليه سيده مجرد نظرة يفهم منها ما يريد أنْ يُقدِّمه للضيف مثلاً . البحارة لهم إشارات يتعارفون عليها ويتفاهمون بها . جهاز التلغراف لَوْن من ألوان الأداء ووسيلة من وسائل التفاهم ، إذن : الأداء والبيان ليس من الضروري أنْ يتمّ بالكلام المسموع ، إنما تتفاهم الأجناس ويُكلِّم بعضها بعضاً كلّ بلغته ، فإذا أراد الله أن يفيض عليك من إشراقاته أعطاك من البصيرة والعلم ما تفهم به لغات غيرك من الأجناس . لذلك يقول تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] والتنوين هنا دالٌّ على التعميم ، فلكل شيء صلاته التي تناسبه ، وتسبيحه الذي يناسب طبيعته . والحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية التسبيح والخضوع والقَهْر من المخلوقات جميعاً لله يأتي الكلام عاماً في كل الأجناس بلا استثناء ، إلا في الكلام عن الإنسان ، فإن التسبيح والخضوع خاصٌّ ببعض الناس . اقرأ قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ … } [ الحج : 18 ] هكذا بلا استثناء ، أمّا في الإنسان ، فقال : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] . ثم يقول تعالى : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 79 ] نعم ، الحق سبحانه خالق كل شيء ، وفاعل كل شيء ، لكن مع ذلك يؤكد هذه الحقيقة حتى لا نتعجب من تسبيح الطير والجماد ، فالله هو الفاعل ، وهو المانح والمحرك . ثم يقول الحق سبحانه عن داود عليه السلام : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ … } .