Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 92-92)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الأمة : الجماعة يجمعها رباط واحد من أرض أو مُلك مَلِك أو دين ، كما جاء في قوله تعالى : { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ … } [ الزخرف : 22 ] يعني : على دين . فالمراد : هذه أمتكم أمةٌ حال كَوْنها أمةً واحدة ، لا اختلافَ فيها والرسل جميعاً إنما جاءوا ليتمموا بناءً واحداً ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلاّ وُضِعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين " . والمعنى أن به صلى الله عليه وسلم تتم النبوة وتختم . وتُطلَق الأمة على الرجل الذي يجمع خصال الخير كلها لأن الله تعالى بعثر خصال الخير في الخَلْق ، فليس هناك مَنْ هو مَجْمع مواهب وفضائل ، إنما في كل منا ميزةٌ وفضيلةٌ في جانب من الجوانب ليتكامل الناس ويحتاج بعضهم إلى بعض ، ويحدث الترابط بين عناصر المجتمع ، هذا الترابط يتم إمَّا بحاجات تطوُّعية ، أو حاجات اضطرارية . فلو تعلَّم الناس جميعاً وتخرجوا في الجامعة فَمنْ للمِهَن والحِرَف الأخرى ؟ مَنْ سيكنس الشوارع ، ويقضي مثل هذه الأمور ؟ لو تعطلتْ مجاري الصرف الصحي ، أيجتمع هؤلاء الدكاترة والأساتذة لإصلاحها ، ولو أصلحوها مرة فهذا تطوُّع . أمّا المصالح العامة فلا تقوم على التطوع إنما تقوم على الحاجة والاضطرار ، ولولا هذه الحاجة لما خرجَ عامل الصرف الصحي في الصباح إلى هذا العمل الشاقّ المنفّر ، لكن كيف وفي رقبته مسئولية أُسْرة وأولاد ونفقات ؟ وسبق أنْ قُلْنا : ينبغي ألاَّ يغترَّ المرء بما عنده من مواهب ومميزات ، ولا يتعالى بها على خَلْق الله ، وعليه أنْ يسأل عَمَّا عند الآخرين من مواهب يحتاج هو إليها ، ولا يؤديها بنفسه . إذن : الحاجة هي الرابطة في المجتمع ، ولو كانَ التطوّع والتفضّل فلن نحقق شيئاً ، فلو قلنا للعامل : تفضل بكنس الشارع لوجدَ ألْفَ عذر يعتذر به ، أما إنْ كان أولاده سيموتون جوعاً إن لم يعمل فلا شكَّ أنه سيُسرع ويُبادر . فالحقيقة أن كل فرد في المجتمع لا يخدم إلا نفسه ، فكما تنفع الآخرين تنتفع بهم لذلك إياك أنْ تحسد صاحب التفوق على تفوّقه في أمر من الأمور لأن تفوقه في النهاية عائد عليك . وكما نقول هذه المسائل في أمور الدنيا نقولها في أمور الآخرة ، حين نرى صاحب التديُّن ، وصاحب الخُلق والالتزام لا نهزأ به ولا نسخر منه ، كما يحلو للبعض لأن صلاحه سيعود عليك ، وسوف تنتفع بتديُّنه واستقامته ولعلنا نُرزَق بسبب هؤلاء . وقد يكون في البيت الواحد فُتوات وأذكياء ومتعلمون وفيهم مُعوَّق أو مجنون أو مجذوب ، فترى الجميع يحتقرونه ، ويُهوِّنون من شأنه ، أو تراه منبوذاً بين هؤلاء مُبْعَداً ، لا يشرُف بمعرفته أحد ، وربما يعيشون جميعاً في ظِلِّه ويُرزَقون كرامة له . وكثيراً ما نرى الناس يغضبون وينقمون على قضاء الله إن رزقهم بمولود فيه عيب أو إعاقة ، ووالله لو رضيتَ به وتقبلْتَ قضاء الله فيه ، لكان هو الظل الظليل لك . فهؤلاء خُلِقوا هكذا لحكمة ، حتى لا نتمرد على صَنْعة الله في كَوْنه ، وحتى يشعر أهل النعمة والسلامة والصحة بفضل الله عليهم ، ولنعلم أن الله تعالى لا يسلب شيئاً من عبده إلاّ وقد أعطاه عِوَضاً عنه . ولك أن تلاحظ مثلاً أحوال الناس المجاذيب الذين تراهم في أيِّ مكان مُهملين يستقلهم الناس ، وينفرون من هيئتهم الرثّة ، ومع ذلك ترى أصحاب الجاه والسلطان إذا نزلتْ بهم ضائقة وأعيَتْهم الأسباب يلجئون لمثل هؤلاء المجاذيب يلتمسون منهم البركة والدعاء ، وهذا في حَدِّ ذاته أسمى ما يمكن أن يتطلع إليه أهل الجاه وأهل السلطان والنفوذ ، أن تكون كلمتهم مسموعةً وأمرهم مُطاعاً ، وأن يلجأ الناس إليهم كما لجئوا إلى هذا المجذوب المسكين . فإذا ما أجرى الله الخير على يد هذا الشيخ المجذوب ترى السيد العظيم يتمحك فيه ، ويدعوه إلى طعامه ، ويدفع عنه أذى الناس ويحتضنه ، لأنه جرَّب وعلم أن لديه فيضاً من فيض الله وكرامة يختص الله بها مَنْ يشاء من عباده ، ونحن جميعاً عباد الله ليس فينا مَنْ هو ابن لله ، أو بينه وبين الله قرابة . وإنْ كان العقل هو أعزّ ما يعتز به الإنسان ، وهو زينته وحليته ، فلك أن تنظر إلى المجنون الذي فقد العقل ، وحُرِم هذه الآلة الغالية ، وترى الناس يشيرون إليه : هذا مجنون ، نعم هو مجنون ، لكن انظر إلى سلوكه : هل رأيتم مجنوناً يسرق ؟ هل رأيتم مجنوناً يزني ؟ هل رأيتم مجنوناً انتحر ؟ إذن : مع كونه مجنوناً إلا أنه مدرك لنفسه تماماً لأن خالقه عز وجل وإنْ سلبه العقل إلا أنه أعطاه غريزة تحكمه كما تحكم الغريزة الحيوان ، وهل رأيتم حماراً ألقى بنفسه مثلاً أمام القطار ؟ إذن : علينا ألاَّ نُحقِّر هؤلاء ، وألاَّ نستقل بهم فقد عوَّضهم الله عما سلبه منهم ، ومنّا مَنْ يسعى ليصل إلى ما وصلوا هم إليه ولا يستطيع ، ومَنْ مِنّا لا يتمنى أن يكون مثل هذا المجذوب الذي يتمسَّح الناس فيه ، ويطلبون منه البركة والدعاء ؟ وأيُّ عظمة يطلبها الإنسان فوق هذا ؟ ويكفي هذا أنه لا يُسأَلُ عَمّا يفعل في الدنيا ، ولا يُسْأَل كذلك في الآخرة . نعود إلى قول الله تعالى : { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً … } [ الأنبياء : 92 ] فمن معاني أمة : الرجل الذي جمع خصال الخير كلها لذلك وصف الله نبيه إبراهيم بأنه أمة ، فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً … } [ النحل : 120 ] . يعني : جمع من خصال الخير مَا لا يوجد إلا في أمة كاملة . والأمة لا تكون واحدة ، إلا إذا صدر تكوينها المنهجي عن إله واحد ، فلو كان تكوينها من متعدد لذهب كُلُّ إله بما خلق ، ولعلاَ بعضهم على بعض ، ولفسد الحال . إذن : كما قال سبحانه : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ … } [ المؤمنون : 71 ] . فلا تكون الأمة واحدة إلا إذا استقبلت أوامرها من إله واحد وخضعت لمعبود واحد ، فإنْ نسيتْ هذا الإله الواحد تضاربتْ وتشتتتْ . وكأن الحق سبحانه يقول : أنتم ستجربون أمة واحدة ، تسودون بها الدنيا وتنطلق دعوتكم من أمة أمية لا تعرف ثقافة ، ولا تعرف علماً ، ولم تتمرس بحكم الأمم لأنها كانت أمة قبلية ، لكل قبيلة قانونها وسيادتها وقيادتها . ثم ينزل لكم نظام يجمع الدنيا كلها بحضاراتها ، نظام يطوي تحت جناحه حضارة فارس وحضارة الروم ويُطوِّعها ، ولو أنكم أمة مثقفة لقالوا قفزة حضارية ، إنما هذه أمة أمية ، ونبيها أيضاً أُمِّي إذن : فلا بُدَّ أن يكون المنهج الذي جاء به ليسلب هذه الحضارات عِزَّها ومجدَها منهجاً أعلى من كل هذه المناهج والحضارات . ثم يقول تعالى : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] أي : التزموا بمنهجي لتظلوا أمة واحدة ، واختار صفة الربوبية فلم يقُلْ : إلهكم لأن الرب هو الذي خلق ورزق وربى ، أمّا الإله فهو الذي يطلب التكاليف . فالمعنى : ما دُمْتُ أنا ربكم الذي خلقكم من عَدَم ، وأمدكم من عُدْم ، وأنا القيوم على مصالحكم ، أكلؤكم بالليل والنهار ، وأرزق حتى العاصي والكافر بي ، فأنا أوْلَى بالعبادة ، ولا يليق بكم أن أصنع معكم هذا كله وتذهبون إلى إله غيري ، هذا منطق العقل السليم ، وكما يقولون اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي . ومن العبادة أن تطيع الله في أمره ونَهيْه لأن ثمرة هذه الطاعة عائدة عليك بالنفع ، فلله تعالى صفات الكمال الأزليّ قبل أنْ يخلق مَنْ يطيعه ، فطاعتك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله ، ومعصيتك لن تنتقص منه شيئاً . إذن : فالأمر راجع إليك ، وربك يُثيبك على فعل هو في الحقيقة لصالحك . لكن ، هل سمع الناس هذا النداء وعملوا بمقتضاه ، فكانوا أمة واحدة كهذه الأمة التي أدخلتْ الدنيا في رحاب الإسلام في نصف قرن ؟ هذه الأمة التي ما زلنا نرى أثرها في البلاد التي تمردتْ على العروبة ، وعلى لغة القرآن ، ومع ذلك هم مسلمون على لغاتهم وعلى حضارتهم ، إن الدين الذي يصنع هذا ، والأمة الواحدة التي تحمَّلتْ هذه المسئولية ما كان ينبغي أن نتخلى عنها . والسؤال : هل بقيت الأمة الواحدة ؟ تجيب الآيات : { وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ … } .