Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 96-96)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وردتْ قصة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف ، حينما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الجوَّال الذي طاف الأرض ، فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 83 ] . وقد تكلم العلماء في ذي القرنين ، منهم مَنْ قال : هو قورش ومنهم مَنْ قال هو : الإسكندر الأكبر . والقرآن لا يعنيه الشخص وإلاَّ لَذكره باسمه ، فالقرآن لا يُؤرِّخ له ، ولا يقيم له تمثالاً ، إنما يريد التركيز على الأوصاف التي تعني الحق وتعني الخَلْق . فيكفي أن نعلم أنه إنسان مكَّنَه الله في الأرض . يعني : أعطاه من أسباب القوة وأسباب المهابة والسيطرة ، وأعطاه من كُلِّ مُقوِّمات القوة : أعطاه المال والعلم والجيوش ، فلم يكتف بذلك كله ، بل { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 85 ] يعني : أخذ بالأسباب التي تؤدِّي إلى الخير . وسبق أنْ تحدثنا عن تشخيص البطل في قصص القرآن لأن القرآن لا يُؤرِّخ للشخصية ، ولا يُعطى لها خصوصية ، وإنما يريدها عامة لتكون مثلاً يُحتذَى ، ويتم بها الاعتبار ، وتُحدِث الأثر المراد من القصة . فما يعنينا في قصة ذي القرنين أنه رجل مُكِّن في الأرض ، وكان من صفاته كذا وكذا ، وما يعنينا من أهل الكهف أنهم فتية آمنوا بربهم وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم وضَحَّوْا في سبيلها ، لا يهمنا الأشخاص ولا الزمان ولا المكان ولا العدد . لذلك أبهم القرآن كل هذه المسائل ، فأيّ فتية ، في أيّ زمان ، وفي أيِّ مكان ، وبأيِّ أسماء يمكن أن يقفوا هذا الموقف الإيماني ، ولو شخَّصناهم وعيَّناهم لَقالَ الناس : إنها حادثة خاصة بهؤلاء ، أو أنهم نماذج لا تتكرر لذلك أبهمهم القرآن ليكونوا عبرة وأُسْوة تسير في الزمان كله . كذلك ، لما أراد القرآن أنْ يضرب مثلاً للذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط ولم يُعيِّنهما ، وكذلك ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون ولم يذكر مَنْ هي ، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص ، إنما لنعلم أن للمرأة حريةَ العقيدة واستقلاليةَ الرأي ، فليست هي تابعة لأحد ، بدليل أن نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كل منهما من هداية امرأته . وفرعون الكافر الذى ادَّعَى الألوهية ، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان ، وهي التي قالت : { رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [ التحريم : 11 ] . إذن : ما يعنينا في قصة " ذي القرنين " أن الله مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوة والسيطرة لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحق ، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحق والعدل . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] . لأننا مكَّنَّاه وفوَّضناه ، فاستعمل التمكين في موضعه ، وأخذ الأمانة بحقِّها ، فقال : { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ] أي : نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا ، ثم يُرَدُّ إلى ربه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته تعالى . { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ] . وهكذا يكون دستور الحياة من الحاكم الممكَّن في الخَلْق ، دستور الثواب والعقاب الذي تستقيم به أمور البلاد والعباد ، فحين يرى تقصيراً لا بُدَّ أنْ يأخذ على يد صاحبه مهما تكُنْ منزلته ، لا يخافه ولا ينافقه ولا يخشى في الله لومة لائم ، وإنْ رأى المحسن المجتهد يُثيبه ويكافئه . وهذا القانون نراه في مجتمعنا يكاد يكون مُعطّلاً بين العاملين ، فاختلط الحابل بالنابل ، وتدهورتْ الأمور ، ودخلت بيننا مقاييس أخرى للثواب وللعقاب ما أنزل الله بها من سلطان ، فانقلبتْ الموازين ، حيث تبجح الكسالى ، وأُحْبِط المجدُّون المحسنون . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [ الكهف : 90 ] . هذا كُلُّ ما أخُبر الله به ، ويبدو أنه وصل في تجواله العام إلى بلاد تظل الشمس بها مشرقة ثلاثة أو ستةَ أشهر لا تغرب لذلك لم يجد لهم من دون الشمس ستْراً يسترها أيْ ظلمة { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] . ومع ذلك احتال أن يفهم منهم ، ويخاطبهم لحرصه على نفعهم وما يصلحهم ، وهذه صفة الحاكم المؤمن حين يُمكَّن في الأرض ، وتُعطَى له أسباب القيادة ، ويُفوَّض في خَلْق الله ، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه . فلما توصلوا إلى لغة مشتركة ، ربما هي لغة الإشارة التي نتفاهم بها مع الأخرس مثلاً : { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ] . ثم أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد ، فأشعل فيها النار حتى احمرَّت فقال { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] وهكذا صنع لهم السدَّ الذي يحميهم من هؤلاء القوم ، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضية ذاتها ، إنما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوة في ألاَّ يتعرضوا لمثلها بعد ذلك ، عملاً بالحكمة التي تقول : لا تعطني سمكة ، ولكن علمني كيف أصطاد . ذلك لأنه أشركهم في العمل ليشعروا بأهميته ويتمسكوا بالمحافظة عليه وصيانته ، وإذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف لا ينتظرون مَنْ يصنع لهم . هذا هو النموذج الذي تُقدِّمه قصة " ذي القرنين " وهو نموذج صالح لكل الزمان ولكل المكان ولكل حاكم مكَّنه الله في الأرض ، وألقى بين يديه أزِمّة الأمور ، وفي حديث أفضل العمل يقول صلى الله عليه وسلم : " تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق " . وقد تضاربتْ الأقوال حول : مَنْ هم يأجوج ومأجوج ، فمنْ قائل : هم التتار . وآخر قال : المغول . وآخر قال : هم الحتيت ، أو السرديال ، أو قبائل الهُونْ . ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن ، إنما المهم من قصتهم أنهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصالح على صلاحه ، فإذا ما تصدَّى لهم الممكَّن في الأرض فعليه أن يحول بينهم وبين هذا الإفساد في غيرهم ، وعلينا نحن ألاَّ نُفسِد الصالح كهؤلاء ، إنما نترك الصالح على صلاحه ، بل ونزيده صلاحاً . وفي بناء ذي القرنين للسد دروس يجب أنْ يعيها أولو الأمر الذين يتوَّلْون مصالح الخَلْق ، من هذه الدروس أنه لم يقف عند طلبهم في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوهم ، إنما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم ، فالسدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النفاذ منه لذلك قال : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [ الكهف : 95 ] . لقد طلبوا سداً وهو يقول : رَدْماً ، لقد رقّى لهم الفكرة ، وأراد أن يصنع لهم سداً على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات ، ولا تؤثر في بنائه لأنه جعل بين الجانبين رَدْماً كأنه سوسته تُعطِي السدّ نوعاً من المرونة . وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق . ولما عرضوا عليه المال نظير عمله أبى ، وقال : { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ … } [ الكهف : 95 ] أي : عندي المال الكثير من عطاء الله لكن أعينوني بما لديكم من قوة . إذن : زكاة القوة أنْ تمنع الفساد من الغير . نعود إلى قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ … } [ الأنبياء : 96 ] فلها علاقة بقوله تعالى : { وَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ … } [ الأنبياء : 93 ] فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد ، وأقل ما يقولونه في حقِّهم أنهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم ، فدعُوكم من كلامهم ، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحق ، ويصرفون الناس عنهم . { حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ … } [ الأنبياء : 96 ] يعني : جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون ، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكن ولا تجد الفرصة والسلطة الزمنية إلا إذا غفل أهل الحق وتفرقوا فلم يردوهم ، ويأخذوا على أيديهم . ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كل زمان ومكان ، فجنكيزخان الذي هدم أول ولاية إسلامية في خوارزم ، وكان عليها الملك قطب أرسلان ، ثم جاء من ذريته الثالثة هولاكو الذي دخل بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وخربَّها وقتل أهلها حتى سالتْ الدماء ، وألقى بالكتب الإسلامية في النهر حتى كانت قنطرة يعبرون عليها . هؤلاء الذين نُسمِّيهم التتار . إذن : فالقرآن قَصَّ علينا من التاريخ القديم قصة يأجوج ومأجوج أيام ذي القرنين ، ثم رأيناهم في حياتنا الإسلامية ، وشاء الله أن يستفيد المسلمون من هجمات هؤلاء البرابرة ، وأن تتجمع ولاياتهم ويصدُّوا هجمات التتار على أرض مصر بقيادة قطز والظاهر بيبرس ، وهما مثالان للممكَّنين في الأرض ، مع أنهما من المماليك . هذه الهجمات التترية للمفسدين في الأرض كانت هجمات همجية وحشية ، وقد تجمَّع أحفاد هؤلاء من يأجوج ومأجوج العصر الحديث في هجمات مدنية تغزونا بحضارتها ، إنهم الصليبيون الذين انهزموا أمام وحدة المسلمين بقيادة صلاح الدين . وهكذا على مرِّ التاريخ ننتصر إذا كنا أمة واحدة ، ونُهزَم إذا تفرّقنا وتقطّعنا أمماً وأحزاباً ، وهذه حقائق تُثبِت صِدْق القرآن فيما وجَّهنا إليه من الوحدة وعدم التفرق . ثم يقول تعالى : { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] . الحدب : المكان المرتفع ، نقول : فلان أحدب الظهر يعني : في ظهره منطقة مرتفعة ، وكذلك هؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة في هضبة شمال الصين . ومعنى { يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يعني : يسرعون ، ومنه نقول : انسلَّ القماش لأن القماش مُكوَّن من سُدى ولُحمة ، يعني خيوط طولية وخيوط عرضية ، تتداخل فتكوِّن القماش ، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطول ، ولا تُنزع خيوط الطول لأنها دائماً مُحكَمة بثَنْى السُّدَى على اللحمة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } .