Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 18-18)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ … } [ الحج : 18 ] يعني : ألم تعلم لأن السُجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا ، ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه . وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة : أدناها الجماد ، ثم يليه النبات ، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة ، ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الإحساس ، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل . وكل جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه ، حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل مَا في كون الله مُسخَّر لخدمة الإنسان ، وفي الخبر : " يا ابن آدم خلقتُ الأشياء من أجلك ، وخلقتُكَ من أجلي ، فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له " . فكان على الإنسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها ، ويعلم أن كل شيء في الوجود مهما صَغُر فله مهمة يؤديها ، ودَوْر يقوم به . فأَوْلَى بك أيها الإنسان وأنت سيد هذا الكون أن يكون لك مهمة ، وأن يكون لك دور في الحياة فلستَ بأقلَّ من هذه المخلوقات التي سخَّرها الله لك ، وإلاَّ صِرْت أقلّ منها وأدنى . إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لأنك أعلى منها ، فانظر إلى مهمتك لمَنْ هو أعلى منك ، فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبِّهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره لأنه نبَّهك إلى ما ينبغي لك أن تشتغل به ، وإلى مَنْ يجب عليك الاتصال به دائماً لذلك فالرسول لا يصح أن تنصرف عنه أبداً لأنه يُوضِّح لك مسائل كثيرة هي مَحَلٌّ للبحث العقلي . وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الأجناس التي تخدمه : ألك قدرة عليها ؟ لقد خدمتْكَ منذ صِغَرِك قبل أنْ تُوجِّه إليها أمراً ، وقبل أنْ توجدَ عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الأشياء ، كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة الأعلى منك ومن هذه المخلوقات ، القوة التي سخَّرَتْ الكون كله لخدمتك ، وهذا بَحْث طبيعي لا بُدَّ أن يكون . هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأبَّ عليك ، ولم تتخلف يوماً عن خدمتك ، انظر إلى الشمس والقمر وغيرهما : أقالت الشمس يوماً : إن هؤلاء القوم لا يستحقون المعروف ، فلن أطلع عليهم اليوم ؟ ! الأرض : هل ضنَّتْ في يوم على زارعها ؟ الريح : هل توقفتْ عن الهبوب . وكلها مخلوقات أقوى منك ، ولا قدرةَ لك عليها ، ولا تستطيع تسخيرها ، إنما هي في قبضة الله - عز وجل - ومُسخَّرة لك بأمره سبحانه ، ولأنها مُسخَّرة فلا تتخلف أبداً عن أداء مهمتها . أما الإنسان فيأتي منه الفساد ، ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه الله من منطقة الاختيار . البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة ، لا سجوداً على حقيقته ، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . فلكل مخلوق مهما صَغُر صلاة وتسبيح وسجود ، يتناسب وطبيعته ، إنك لو تأملت سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدتَ اختلافاً بين الناس باختلاف الأحوال ، وهم نوع واحد ، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش ، أو جالس على مقعد ، وربما يشير بعينه ، أو أصبعه للدلالة على السجود ، فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره . فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حاله وقدرته وطاقته ، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به ، والذي يتناسب مع طبيعته ؟ وإذا كان هذا حال السجود في الإنسان ، فهل ننتظر مثلاً أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر ؟ ! ما دام الحق - سبحانه وتعالى - قال إنها تسجد ، فلا بُدَّ أن نؤمن بسجودها ، لكن على هيئة لا يعلمها إلا خالقها عز وجل . بالله ، لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش ، أتعرف وهو أمامك أنه يسجد ؟ إذن : كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات ؟ ومن معاني السجود : الخضوع والطاعة ، فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجوداً على الحقيقة ، فليعتبر السجود هنا للخضوع والانقياد والطاعة ، كما تقول على إنسان متكبر : جاء ساجداً يعني : خاضعاً ذليلاً ، ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . إذن : لك أن تفهم السجود على أيِّ هذه المعاني تحب ، فلن تخرج عن مراده سبحانه ، ومن رحمة الله أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته ، لا تنحلّ عنها أبداً ولا تتخلف ، كما قال سبحانه : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . ونحن نتناقل الآن ، ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين فَهِموا عن الله وتذوَّقوا لذَّة قُرْبه ، وكانوا يتحاورون ويتنافسون لا للمباهاة والافتخار ، إنما للترقي في القرب من الله . جلس اثنان من هؤلاء العارفين وفي فَمِ أحدهم نَخْمة يريد أنْ يبصقها ، وبدتْ عليه الحيرة ، وهو ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه : أَلْقِها واسترحِ ، فقال : كيف وكلما أردتُ أنْ أبصقها سمعت الأرض تُسبِّح فاستحيْتُ أنْ أُلقيها على مُسبِّح ، فقال الآخر - ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه - وقد افتعل البَصْق وقال : مُسبِّح في مُسبِّح . إذن : فأهل الكشف والعارفون بالله يدركون هذا التسبيح ، ويعترفون به ، وعلى قدر ما لديك من معرفة بالله ، وما لديك من فَهْم وإدراك يكون تلقِّيك وتقبُّلك لمثل هذه الأمور الإيمانية . والحق - سبحانه وتعالى - حين قال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ . . } [ الحج : 18 ] معلوم أن مَنْ في السماوات هم الملائكة ولسنْا منهم ، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة ، فلماذا قال بعدها : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . كلمة : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] تُبيّن أن لنا قهريةً وتسخيراً وسجوداً كباقي أجناس الكون ، ولنا أيضاً منطقة اختيار . فالكافر الذي يتعوَّد التمرُّد على خالقه : يأمره بالإيمان فيكفر ، ويأمره بالطاعة فيعصي ، فلماذا لا يتمرد على طول الخط ؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ أمرضه الله ؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به ؟ إذن : الإنسان مُؤتمِر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان ، ومنطقة الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام : كثير آمن ، وكثير حَقَّ عليه العذاب . لكن ، لماذا لم يجعل الله - سبحانه وتعالى - الخَلْق جميعاً مُسخَّرين ؟ قالوا : لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت لله تعالى صفة القدرة على الكل ، إنما لا تُثبت لله المحبوبية ، المحبوبية لا تكون إلا مع الاختيار : أن تكون حُرَّا مختاراً في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان ، وأنْ تكون حُراً وقادراً على المعصية ، لكنك تطيع . وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - : هَبْ أن عندك عبدين ، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلاً ، وتترك الآخر حُراً ، فإن ناديتَ عليهما أجاباك ، فأيهما يكون أطْوعَ لك : المقهور المجبر ، أم الحر الطليق ؟ . إذن : التسخير والقهر يُثبت القدرة ، والاختيار يُثبت المحبة . والخلاف الذي حدث من الناس ، فكثير منهم آمن ، وكثير منهم حَقَّ عليه العذاب ، من أين هذا الاختلاف يا رب ؟ مما خلقتُه فيك من اختيار ، فمَنْ شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فكأن كفر الكافر واختياره لأن الله سَخَّره للاختيار ، فهو حتى في اختياره مُسخَّر . أما قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ … } [ الحج : 18 ] يعني : باختياراتهم ، وكان المفروض أن يقول في مقابلها : وقليل ، لكن هؤلاء كثير ، وهؤلاء كثير أيضاً . ومعنى : { حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] حقَّ : يعني ثبتَ ، فهذا أمر لا بُدَّ منه ، حتى لا يستوي المؤمن والكافر : { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] إذن : لا بُدَّ أنْ يعاقب هؤلاء ، والحق يقتضي ذلك . وقوله سبحانه : { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] لأن أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك . قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه ، أو يأتي شافع يشفع له ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُيئَّسُ هؤلاء من النجاة من عذابه ، فلن يمنعهم أحد . فمَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد ، لابنُصْرته ولا بالشفاعة له ، فالمعنى : { وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ … } [ الحج : 18 ] أي : بالعذاب الذي حَقَّ عليه وثبت { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ … } [ الحج : 18 ] يعني : يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب ، كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزه لأن عِزَّته لا تكون إلا قَهْراً عن الله ، وهذا مُحَال ، أو يكون بشافع يشفع له عند الله ، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه . لذلك ، نقول : إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه ، يعني : لا أحد يقول لله : هذا في جواري لذلك ذيَّلَ الآية بقوله تعالى : { ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ الحج : 18 ] . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } .