Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 19-19)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة خَصْم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع ، وكذلك المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] . ويقول تعالى : { خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ ص : 22 ] . والمراد بقوله : { خَصْمَانِ … } [ الحج : 19 ] قوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] والخصومة تحتاج إلى فَصْل بين المتخاصمين ، والفَصْل يحتاج إلى شهود ، لكن إنْ جاء الفَصْل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [ النساء : 79 ] . وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم ، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم ، يقول تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ … } [ فصلت : 21 ] . فإنْ قلتَ : كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت ؟ نقول : هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه ، وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - بالقائد الذي يأمر جنوده ، وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الأوامر خاطئة ، فإنْ رجعوا إلى القائد الأعلى حكَوْا له مَا كان من قائدهم ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم ، وألزمهم طاعته والائتمار بأمره . فالخالق - عز وجل - جعل لإرادة الإنسان ولاية على جوارحه ، فالفعل - إذن - للإرادة ، وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ . فحينما تريد مثلاً أنْ تقوم ، مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائماً دون أنْ تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل ، مع أنها عملية مُعقَّدة تتضافر فيها الإرادة والعقل والأعصاب والأعضاء ، وأنت نفسك لا تشعر بشيء من هذا كله ، وهل في قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرَّك فتحركتْ ؟ فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الإرادة ، أفلا يكون أوْلى من هذا أنْ ينفعل خَلْق الله لإرادة الله ؟ إذن : العمدة في الأفعال ليستْ الجوارح وإنما الإرادة ، بدليل أن الله تعالى إذا أراد أنْ يُعطِّل جارحة من الجوارح عطّل الإرادة الآمرة ، وقطعها عن الجارحة ، فإذا هي مشلولة لا حركةَ فيها ، فإنْ أراد الإنسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع ، لماذا ؟ لأنه لا يعلم الأبعاض التي تُحرِّك هذه الجارحة ، ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي : ما الحركة الآلية التي تتم في جسم الإنسان كي يقوم من نومه أو من جِلْسته ؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة . أما لو نظرتَ مثلاً إلى الحفَّار ، وهو يُؤدِّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبياً يشغله باستخدام بعض الأزرار ، ويستطيع أنْ يصِفَ لك كل حركة فيه ، وما الآلات التي تشترك في كل حركة . فَقُلْ لي بالله : ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك ؟ ما الزر الذي تُحرِّك به عينيك ، أو لسانك ، أو قدمك ؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد لأن الله تعالى خلقك ، وجعل لإرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك ، فلا تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات لله - عز وجل - إنْ أراد منها أنْ تفعلَ . حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض ، إنما العذاب للنفس الواعية ، بدليل أن الإنسان إذا تعرَّض لألم شديد لا يستريح منه لا أنْ ينام ، فإذا استيقظ عاوده الألم ، إذن : فالنفس هي التي تألم وتتعذَّب لا الجوارح . والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن ، كما قال سبحانه في آية أخرى { إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ … } [ الحج : 17 ] . لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه : أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب . هؤلاء في جانب وفي الجانب المقابل : عتبة ابن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . لماذا ؟ لأن بين هؤلاء كانت أول معركة في الإسلام ، وهذه أول خصومة وقعتْ فيه ، ذلك لأنهم في معركة بدر أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً للمبارزة ، وكانت عادتهم في الحروب أنْ يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ يُعذِّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال ، ويُعرِّضوا أرواح الناس جميعاً للخطر . ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في موقعة صِفِّين حيث قال علي لمعاوية : ابرز إليَّ يا معاويةُ ، فإنْ غلبتني فالأمر لك ، وإنْ غلبتُك فاجعل الأمر لي ، فقال عمرو بن العاص وكان في صفوف معاوية : والله ، يا معاوية لقد أنصفك الرجل ، وفي هذا حَقْنٌ لدماء المسلمين في الجانبين . فنظر معاوية إلى عمرو وقال : والله يا عمرو ما أردْتَ إلا إن أبرز له فيقتلني ، ويكون لك الأمر من بعدي ، وما دُمْتَ قد قلتَ ما قلتَ فلا يبارزه غيرك فاخرج إليه . فقام عمرو لمبارزة علي ، لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته ؟ وحمل عليٌّ على عمرو حملة قوية ، فلما أحسَّ عمرو أن علياً سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة ، واستعمل دهاءه في صَرْف عليٍّ عنه ، فكشف عمرو عن عورته ، وهو يعلم تماماً أن علياً يتورع عن النظر إلى العورة ، وفعلاً تركه علي وانصرف عنه ، ونجا عمرو بحيلته هذه . وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف فقال : @ وَلاَ خَيْرَ في رَدِّ الرَّدَى بِدَنيَّةٍ كَما رَدَّهَا يَوْماً بِسَوْأَتِهِ عَمْرُو @@ ويقول الشريف الرضي - وهو من آل البيت - في القصيدة التي مطلعها : @ أرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْر أَما لِلْهَوَى أَمْر عليْكَ ولاَ نَهْيُ بَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي لَوْعَةٌ وَلكِنْ مِثْلي لاَ يُذَاعُ لَهُ سِرُّ @@ وفيها يقول : @ وَإنَّا أُنَاسٌ لاَ تَوسُّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصَّدْرُ دُون العَالَمينَ أو القَبْرُ @@ نعود إلى بدر ، حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول الله بعض رجال الأنصار فقالوا : هؤلاء نكرات من الأنصار ، نريد أن تُخرِج لنا أَكْفَاءنا من رجال قريش ، فأخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخرجوا هم عتبة وشيبة والوليد ، وكان ما كان من نُصْرة المسلمين وهزيمة المشركين . وهذا هو اليوم الذي قال الله فيه : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ آل عمران : 123 ] . إذن : فبدر كانت فَصْلاً دنيوياً بين هذيْن الخصْمين ، ويبقى فَصْل الآخرة الذي قال فيه الإمام علي : " أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل " . ومعنى : { ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ … } [ الحج : 19 ] أي : بسبب اختلافهم في ربهم ، ففريقٌ يؤمن بوجود إله ، وفريقٌ يُنكره ، فريق يُثبت له الصفات ، وفريق ينفي عنه هذه الصفات ، يعني : انقسموا بين إيمان وكفر . ثم يُفصِّل القول : { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } [ الحج : 19 ] . { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ … } [ الحج : 19 ] كأن النار تفصيل على قَدْر جسومهم إحكاماً للعذاب ، ومبالغةً فيه ، فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلِّل من شِدَّتها ، وليست فضفاضة عليهم . ثم { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } [ الحج : 19 ] والحميم : الماء الذي بلغ منتهى الحرارة ، حتى صار هو نفسه مُحْرِقاً من شِدَّة حَرّه ، ولكَ أنْ تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل ! ! وهكذا يجمع الله عليهم ألوان العذاب لأن الثياب يرتديها الإنسان لتستر عورته ، وتقيه الحر والبرد ، ففيها شمول لمنفعة الجسم ، يقول تعالى : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . فالإذاقة ليستْ في اللباس ، إنما بشيء آخر ، واللباس يعطي الإحاطة والشمول ، لتعم الإذاقة كُلَّ أطراف البدن ، وتحكم عليه مبالغةً في العذاب .