Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 26-26)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام ، فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه ، فقال سبحانه : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ الحج : 26 ] معنى بَوَّأه : أي : جعله مَبَاءةً يعني : يذهب لعمله ومصالحه ، ثم يبوء إليه ويعود ، كالبيت للإنسان يرجع إليه ، ومنه قوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 61 ] . وإذ : ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث ، والمعنى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا . وهكذا في كل آيات القرآن تأتي إذ في خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحدث وقع في ذلك الظرف . لكن ، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت ؟ قالوا : لأن المكان المتبوّأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان ليرجع إليها من متاعب حياته ، ولا يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرتْ فيه كل مُقوِّمات الحياة . لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام : { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ … } [ يوسف : 56 ] . وقال في شأن بني إسرائيل : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ … } [ يونس : 93 ] فمعنى : { بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ … } [ الحج : 26 ] أي : جعلناه مبَاءة له ، يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ أعلمنَاهُ ، ودَلَلْناه على مكانه . وقلنا : إن المكان غير المكين ، المكان هو البقعة التي يقع فيها ويحلُّ بها المكين ، فأرض هذا المسجد مكان ، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى " مكين في هذا المكان " . وعلى هذا فقد دَلَّ الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه . وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة : فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام هو أول مَنْ بنى البيت . ونقول لأصحاب هذا الرأي : الحق - تبارك وتعالى - بوَّأ لإبراهيم مكان البيت ، يعني : بيَّنه له كأن البيت كان موجوداً ، بدليل أن الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم : { إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ … } [ إبراهيم : 37 ] . وفي قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ … } [ البقرة : 127 ] . ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شَبَّ ، وأصبح لديه القدرة على معاونة أبيه ، أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعاً ، وقوله تعالى : { عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ … } [ إبراهيم : 37 ] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت ، إذن : هذا دليل على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم . وقد أوضح الحق - سبحانه وتعالى - هذه المسألة في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] . وحتى نتفق على فَهْم الآية نسأل : مَنْ هُم الناس ؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة ، إذن : فآدم من الناس ، فلماذا لا يشمله عموم الآية ، فالبيت وُضِع للناس ، وآدم من الناس ، فلا بُدَّ أن يكون وُضِع لآدم أيضاً . إذن : يمكنك القول بأن البيت وُضِع حتى قبل آدم لذلك نُصدِّق بالرأي الذي يقول : إن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً ، ثم طمسَ الطوفانُ معالم البيت ، فدلَّ الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت ، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي . ويُقال : إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلَّتْه على المكان ، ونطقتْ : يا إبراهيم خُذْ على قدري ، أي : البناء . ولو تدبرتَ معنى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ … } [ البقرة : 127 ] الرَّفْع يعني : الارتفاع ، وهو البعد الثالث ، فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض موجود فعلاً ، وعلى إبراهيم أنْ يرفعها . لكن لماذا بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت ؟ لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } [ إبراهيم : 37 ] كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة ، الصلاة للإله الحقِ والربِّ الصِّدْق لذلك أمره أولاً : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ الحج : 26 ] والمراد : طَهِّر هذا المكان من كل ما يُشعِر بالشرك ، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله . وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم - عليه السلام - في الشرك ؟ بالطبع لا ، وما أبعدَ إبراهيمَ عن الشرك ، لكن حين يُرسِل الله رسولاً ، فإنه أول مَنْ يتلقَّى عن الله الأوامر ليُبلِّغ أمته ، فهو أول مَنْ يتلقى ، وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدوةً لقومه فيُصدِّقوه ويثقوا به لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنَجْوة عنه . ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ … } [ الأحزاب : 1 ] وهل خرج محمد صلى الله عليه وسلم عن تقوى الله ؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها ، حتى يسهُلَ علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه ، ولا نرى غضاضةً في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له : يا فلان اتق الله ، وربما اعتبرها إهانة واتهاماً ، وظن أنها لا تُقال إلا لمَنْ بدر منه ما يخالف التقوى . وهذا فَهْم خاطىء للأمر بالتقوى ، فحين أقول لك : اتق الله . لا يعني أنني أنفي عنك التقوى ، إنما أُذكِّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى الله . إذن : قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً … } [ الحج : 26 ] لا تعني تصوُّر حدوث الشرك من إبراهيم ، وقال { شَيْئاً … } [ الحج : 26 ] ليشمل النهيُ كُلَّ ألوان الشرك ، أياً كانت صورته : شجر ، أو حجر ، أو وثن ، أو نجوم ، أو كواكب . ويؤكد هذا المعنى بقوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ … } [ الحج : 26 ] والتطهير يعني : الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك ، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريكَ له ، وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان ، فقد يكون به شيء من القاذورات مثلاً . ومعنى { لِلطَّآئِفِينَ … } [ الحج : 26 ] الذين يطوفون بالبيت : { وَٱلْقَآئِمِينَ … } [ الحج : 26 ] المقيمين المعتكفين فيه للعبادة { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ الحج : 26 ] الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة ، عبَّر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أظهر أعمال الصلاة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً … } .