Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج ، لماذا ؟ لأن البيت بيت الله ، والخَلْق جميعاً خَلْق الله ، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به ، أو يعيش إلى جواره ؟ فأراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً ، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم ، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت الله ، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق . إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم ، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات ، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة ، فما بالك ببيت الله ، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور به ؟ ومعنى { أَذِّن … } [ الحج : 27 ] الأذان : العلم ، وأول وسائل العلم السماع بالأذن ، ومن الأذن أُخذ الأذان . أي : الإعلام . ومن هذه المادة قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] أي : أعلم لأن الأذن وسيلة السماع الأولى ، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به لذلك قبل أنْ تتكلَّم لا بُدَّ أنْ تسمع . وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته ، فلمَنْ يُؤذِّن ؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون ؟ فناداه ربه : " يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ " . مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان ، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس ، في كل الزمان ، وفي كل المكان ، سيسمعه البشر جميعاً ، وهم في عالم الذَّرِّ وفي أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ … } [ الأنفال : 17 ] . يعني : أَدِّ ما عليك ، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك . فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج ، ووصل النداء إلى البشر جميعاً ، وإلى أن تقوم الساعة ، فَمنْ أجاب ولَبَّى : لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حَجَّة ، حتى إن من العلماء من قال : مَنْ لبَّى مرة كُتِبَتْ له حجة ، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن وهكذا ، لأن معنى لبيك : إجابةً لك بعد إجابة . فإنْ قُلْتَ : إن مطالب الله وأوامره كثيرة ، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة ؟ نقول : أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصوم ، ثم الحج ، لو نظرتَ إلى هذه الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته ، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج ، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة ، لماذا ؟ قالوا : لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال : أَذِّن - يأتوكَ ، هكذا رَغْماً عنهم ، ودون اختيارهم ، أَلاَ ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة ، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم . وهذا معنى قوله تعالى : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ … } [ إبراهيم : 37 ] ومعنى تهوي : تأتي دون اختيار من الْهُويِّ أي : السقوط ، وهو أمر لا يملكه الإنسان ، كالذي يسقط من مكان عالٍ ، فليس له اختيار في ألاَّ يسقط . وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله ، وتتحرَّق شَوْقاً إليه ، وكأن شيئاً يجذبها لأداء هذه الفريضة لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة ، وحكم فيها بقوله { يَأْتُوكَ … } [ الحج : 27 ] أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار المكلف ، يطيع أو يعصي ، إذن : هذه المسألة قضية صادقة بنصِّ القرآن . وبعض أهل الفَهْم يقولون : إن الأمر في : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ … } [ الحج : 27 ] ليس لإبراهيم ، وإنما لمحمد صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن ، وخاطبه بهذه الآية ، فالمعنى { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ … } [ الحج : 26 ] يعني : اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، اذكر هذه القضية { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ … } [ الحج : 27 ] فكأن الأمر هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم . لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى ، فهم لا يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبداً ، وقد ثبت أن موسى - عليه السلام - حج بيت الله ، لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام حَجَّ ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " " يُوشك أنْ ينزل ابن مريم ، ويأتي حاجاً ، ويزور قبري ، ويُدفن هناك " . فقال رسول الله : " ويأتي حاجاً " لأنه لم يمت ، وسوف يدرك عهد التكليف من رسول الله حين ينزل من السماء ، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع أنبياء الله ورُسُله . ومن المسائل التي نحتجُّ بها عليهم قولهم : إن الذبيح إسحاق ، فلو أن الذبيح إسحاق كما يدَّعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورَمْي الجمار عندكم في الشام ، أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة ، حيث كان إسماعيل . ثم تذكَّروا جيداً ما قاله كتابكم المقدس في الأصحاح 23 ، 24 من أن الحق - سبحانه وتعالى - أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران ، ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه ، فالوحيد إسماعيل لا إسحاق لأن الله فدى إسماعيل ، ثم بشَّر إبراهيم بإسحاق . ومن حكمة الله - عز وجل - أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذاً للحق ، وثغرات نصل منها إلى الحقيقة لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة أبداً ، لا بُدَّ أنْ يترك المجرم قرينة تدلُّ عليه مهما احتاط لجريمته ، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملابسه ، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون . . إلخ ، لذلك نقول : الجريمة لا تفيد لأن المجرم سيقع لا محالة في يد مَنْ يقتصُّ منه . ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم ، فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلامه ثغرةً أو تضارباً يصل منه إلى الحقيقة . ذلك لأن للصدق وجهاً واحداً لا يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد ، أمّا الكذب فله أكثر من وجه ، والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييراً وتضارباً في كلامه لذلك العرب يقولون : إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً . يعني : تذكَّر ما قُلْته أولاً ، حتى لا تُغيِّره بعد ذلك . ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قَوْلُ أحدهم للآخر : هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة العيد الصغير ، وكان القمر ظهراً ! ! فقال : كيف ، يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر ؟ وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل ، ولا بُدَّ أنْ يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه الحق ، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة ، ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا وكذا ، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه ، وتوجَّه إلى صاحب الأمانة ، وقال له : اذهب إلى المكان ، وابحثْ لعلَّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك . أو لعلّ آخر أخذه منك ، فذهب صاحب المال ، وفجأة سأل القاضي المتهم : لماذا تأخر فلان طوالَ هذا الوقت ؟ فردَّ المتهم : لأن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي . فخانتْه ذاكرته ، ونطق بالحق دون أن يشعر . ثم يقول تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً … } [ الحج : 27 ] ورجالاً هنا ليست جَمْعاً لرجل ، إنما جمع لراجل ، وهو الذي يسير على رِجْلَيْه { وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ … } [ الحج : 27 ] الضامر : الفَرَس أو البعير المهزول من طول السفر . وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي { يَأْتُوكَ … } [ الحج : 27 ] فالجميع حريص على أداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشياً . وقوله : { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] أي : من كل طريق واسع { عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] يعني : بعيد . ثم يقول الحق سبحانه : { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ … } .