Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 78-78)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] كالذي قلناه في { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 74 ] لأن الجهاد أيضاً يحتاج إلى إخلاص ، وأنْ تجعل الله في بالك ، فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن نفسك وحملتَ السلاح فعلاً ودخلت المعركة ، لكن ما في بالك أنها لله وما في بالك إعلاء كلمة الله ، كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته ، أو يقاتل طمعاً في الغنائم ، أو لأنه مغتاظ من العدو وبينه وبينه ثأر ، ويريد أن ينتقم منه ، هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من محتواه . لذلك لما سئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل ليذكر ، والرجل يقاتل ليُرى مكانه ، فمَنْ في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " وهذا هو حق الجهاد ، وأنت فيه حكَم على نفسك ، لأن ميزان ذلك في يدك . وقد تسأل : ولماذا الجهاد ؟ قالوا : لأنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقاً له بعد التحقيق الذي أتى به الرسل تنفع نفسك ، لكن ربك - عز وجل - يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضاً ، وهذا لا يتأتّى إلا بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب ، وإلا فكيف ستربح الصفقة التي قال الله تعالى عنها : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ … } [ التوبة : 111 ] . وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة ، كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة : الجندي حين يقتحم الأهوال والمخاطر ويُعرِّض نفسه للموت ، فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرَّض نفسه للقتل إلا وهو واثق تمام الثقة ، أن ما يذهب إليه بالقتل خير مما يناله بالجُبْن ، وهذا يشجع الآخرين ويحثّهم على القتال . لذلك ، في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد وكان في فمه تمرة يمصُّها ، فقال : يا رسول الله ، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله ؟ قال : نعم ، فألقى التمرة من فيه وخرج لتوِّه إلى الجهاد لأنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه بالشهادة خير مما ترك . أما الذين بَقَوْا ولم يخرجوا ، فمهمتهم أن يحملوا المنهج ، وأنْ يحققوه ، وإلا لو خرج الجميع إلى القتال واستشهدوا جميعاً ، فمَنْ يحمل منهج الله وينشره ؟ وجاءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد ، فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر فلم يَعُدْ هناك كفار ، أو خَلَّوْا طريق دعوتنا وتركونا ، وأحبوا أنْ يعيشوا في بلادنا أهل ذمة ، فلا داعي - إذن - للقتال ، ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس . لذلك قال تعالى بعدها : { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ … } [ الحج : 78 ] يعني : اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة أُخرجت للناس ، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلاً له ، وعلى مستوى مسئوليته ، وأنْ نحقق ما أراده الله منّا . كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها ، نقول لهم : لقد اختاركم الله ، فكونوا أَهْلاً لهذا الاختيار ، واجعلوا كلامه تعالى في محلّه . ثم يقول سبحانه : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ … } [ الحج : 78 ] يعني : ما اجتباكم ليُعنتكم ، أو ليُضيِّق عليكم ، أو ليُعسِّر عليكم الأمور ، إنما جعَل الأمر كله يُسْر ، وشرعه على قَدْر الاستطاعة ، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم ، ويُذهِب عنكم الحرج والضيق ، فمَنْ لم يستطع القيام صلى قاعداً ، ومَنْ كان مريضاً أفطر ، والفقير لا زكاة عليه ولا حج … الخ . كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ … } [ البقرة : 220 ] لكنه سبحانه ما أعنتكم ولا ضَيَّق عليكم ، وما كلَّفكم إلا ما تستطيعون القيام به . وقوله تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] كلمة ملة جاءت هكذا بالنصب ، لأنها مفعول به لفعل تقديره : الزموا مِلة أبيكم إبراهيم لأنكم دعوته حين قال : { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ … } [ البقرة : 128 ] . ومن دعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ … } [ البقرة : 129 ] لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرى عيسى " . يعني : من ذريته وذرية ولده إسماعيل { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا … } [ البقرة : 128 ] أعطنا التكاليف ، وكأنه مُتشوِّق إلى تكاليف الله ، وهل يشتاق الإنسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة ؟ وكذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعشقون تكاليف الإسلام ، ويسألون عنها رسول الله رغم قوله لهم : " ذروني ما تركتكم " إلا أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة ، لا على ما كانت الجاهلية تفعله ، بل على ما أمر به الإسلام . ولنا مَلْحظ في قوله تعالى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ … } [ الحج : 78 ] فالخطاب هنا لأمة الدعوة ، ولأمة الإجابة ، وهل أمة الإسلام كلها من ذرية إبراهيم حتى يقول { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ … } [ الحج : 78 ] ؟ نقول : الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع ، وفي أمة الإسلام مَنْ ليس من ذرية إبراهيم ، لكن إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، والرسول أب لكل مَنْ آمن به لأن أبوة الرسول أبوة عمل واتباع ، كما جاء في قول الله تعالى في قصة نوح عن ابنه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ … } [ هود : 46 ] . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً لكل مَنْ آمن به سَمَّى الله زوجاته أمهات للمؤمنين ، فقال سبحانه : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] . وما دامت الأزواج أمهات ، فالزوج أب ، وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلام أباً لأمة الإسلام ، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته . ونجد البعض ممَّنْ يحبون الاعتراض على كلام الله يقولون في مسألة أبوة الرسول لأمته : لكن القرآن قال غير ذلك ، قال في قصة زيد بن حارثة : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ … } [ الأحزاب : 40 ] فنفى أن يكون محمد أباً لأحد ، وفي هذا ما يناقض كلامكم . نقول : لو فهمتم عن الله ما اعترضتُم على كلامه ، فالله يقول : ما كان محمد أباً لأحدكم ، بل هو أب للجميع ، فالمنفيّ أن يكون رسول الله أباً لواحد ، لا أن يكون أباً لجميع أمته . وقال بعدها : { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 40 ] وما دام رسول الله ، فهو أب للكل . ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ … } [ الحج : 78 ] يعني : إبراهيم عليه السلام سماكم المسلمين ، فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السلام : { وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ … } [ الحج : 78 ] . وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير ، فيقول سبحانه : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] . لماذا ؟ قالوا : لأن رسول الله بلَّغ رسالة الله ، وأشهد الله على ذلك حين قال : " اللهم قد بلغت ، اللهم فاشهد " أشهد أنِّي بلغتُ ، وهو صلى الله عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملاً لهذه الرسالة ، مُبلِّغاً لها حتى يسمع كلام الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَرَهُ ، وهكذا يكون الرسول شهيداً على مَنْ آمن به ، ومَنْ آمن شهيداً على مَنْْ بلّغه . لذلك من شرف أمة محمد أولاً أنه لا يأتي بعده رسول لأنهم مأمونون على منهج الله ، وكأن الخير لا ينطفىء فيهم أبداً . وقلنا : إن الرسل لا يأتون إلا بعد أنْ يعُمَّ الفساد ، ويفقد الناس المناعة الطبيعية التي تحجزهم عن الشر ، وكذلك يفقدها المجتمع كله فلا ينهى أحد أحداً عن شر عندها يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد . فختام الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة أن الخير لا ينقطع من أمته أبداً ، ومهما انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم . لذلك حدَّد رسول الله هذه المسألة فقال : " الخير فيَّ حصراً ، وفي أمتي نثراً " فالخير كله والكمال كله في شخص رسول الله ، ومنثور في أمته . ثم يعود السياق إلى الأمر بالصلاة : { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ … } [ الحج : 78 ] لأنها الفريضة الملازمة للمؤمن ، وفيها إعلاء الولاء المكرر في اليوم خمس مرات ، وبها يستمر ذِكْر الله على مدى الزمن كله لا ينقطع أبداً في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله ، وتضم بعضه إلى بعض . والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق - تبارك وتعالى - يجده دائماً لا ينقطع ، فاليوم مثلاً عندنا أربع وعشرون ساعة ، واليوم عند الله ألف سنة مما تعدُّون ، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة ، وهناك يوم اسمه يوم الآن أي : اللحظة التي نحن فيها ، وهو يوم الله الذي قال عنه : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] لذلك يقول : ما شغل ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ ؟ قال : " أمور يبديها ولا يبتديها ، يرفع أقواماً ، ويضع آخرين " . فيوم الآن يوم عام ، لا هو يوم مصر ، ولا يوم سوريا ، ولا يوم اليابان إذن : في كل لحظة يبدأ لله يوم ينتهي يوم ، فيومه تعالى مستمر لا ينقطع . ونقرأ في الحديث النبوي الشريف : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل " . نهار مَنْ ؟ وليل مَنْ ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم لا ينقطع ، وفي كل لحظة من لحظات الزمن ينتهي يوم ويبدأ يوم ، وينتهي ليل ويبدأ ليل . إذن : فالله تعالى يده مبسوطة دائماً لا يقبضها أبداً ، كما قال سبحانه : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] . ثم يقول سبحانه : { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } [ الحج : 78 ] الجئوا إليه في الشدائد ، وهذا يعني أنكم ستُواجهون وتُضطهدون ، فما من حامل منهج لله إلا اضُطهد ، فلا يؤثر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم ، واجعلوا الله ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم ، كما قال سبحانه : { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] . واعتصامكم بالله أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنما { هُوَ مَوْلاَكُمْ } [ الحج : 78 ] يعني : المتولّي لشأنكم ، وما دام هو سبحانه مولاكم { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } .