Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 77-77)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

النداء في ضَرْب المثل السابق كان للناس كافَّة لأنه يريد أنْ يَلفِت عُبَّاد الأصنام إلى هذا المثَل ، ويُسْمعهم إياه ، أمَّا هنا فالكلام عن منهج ودستور مُوجَّه ، خاصّة إلى الذين آمنوا ، لأنه لا يُكلَّف بالحكم إلا مَنْ آمن به ، أما مَنْ كفر فليس أَهْلاً لحمل هذه الأمانة لذلك تركه ولم ينظم له حركة حياته . وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد مَنِ استعان به ووثق فيه ، فيدلّه ويرشده ، أما مَنْ شكَّ في كلامه وقلّلَ من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق . فإذا ناداك ربك بما يكلفك به ، فاعلم أن الجهة مُنفكّة ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ … } [ النساء : 136 ] . وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الآية بعض الذين يأخذون الآيات على ظاهرها ، يقولون : كيف يخاطبهم بيا أيها الذين آمنوا ثم يقول : آمِنوا ، كيف وهم يؤمنون بالفعل ؟ قالوا : المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظَلُّوا على إيمانكم في الحكم الجديد ، واستمِرّوا على إيمانكم لذلك إذا طلبتَ شيئاً ممَّنْ هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه . كما أن هناك فَرْقاً بين الإيمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم ، فقد تؤمن بالحكم أنه من الله ولا تشكّ فيه ولا تعترض عليه ، لكنك لا تنفذه وتعصاه ، فمثلاً في الحج يقول تعالى : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ … } [ آل عمران : 97 ] الذي لله تعالى على عباده أنْ يحجوا البيت { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وهذا شرط ضروري ، فلا تكليفَ بلا استطاعة ، ثم يقول : { وَمَن كَفَرَ } [ آل عمران : 97 ] . فهل يعني هذا أن مَنْ لم يحج فهو كافر ؟ قالوا : لا ، لأن المراد : لله على الناس حكم يعتقده المؤمن ، بأن لله على الناس حج البيت ، فمن اعتقد هذا الاعتقاد فهو مؤمن ، أما كونه ينفذه أو لا ينفذه هذه مسألة أخرى . ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلاة : { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ … } [ الحج : 77 ] لقد جاء الرسل من عند الله بتكاليف كثيرة ، لكن خَصَّ هنا الصلاة لأنها التكليف الذي يتكرر كل يوم خمس مرات ، أما بقية التكاليف فهي موسمية : فالصوم شهر في العام كله ، والحج مرة في العمر كله لمن استطاع ، والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول الحَوْل . إذن : تختلف فريضة الصلاة عن باقي الفرائض لذلك خَصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمَنْ تركها فقد كفر " . ويقول : " الصلاة عماد الدين " . وخصَّها الحق - تبارك وتعالى - بظرف تشريعي خاص ، حيث فُرِضت الصلاة بالمباشرة ، وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي . وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - قلنا : إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول : افعل كذا وكذا ، فإنْ كان أمراً هاماً اتصل بك تليفونياً ، وأخبرك بما يريد لأهميته ، فإنْ كان الأمر أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك : تعال عندي لأمر هام ، ويُكلِّفك به مباشرة ، وكذلك على حسب الأهمية يوجد ظرف التشريع . فالصلاة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض ، إنما جاءت مباشرة من المُوحِي سبحانه وتعالى لأنها ستكون صلة بين العبد وربه ، فشاء أن يُنزّهَها حتى من هذه الواسطة ، ثم ميَّزها على غيرها من التكاليف ، فجعلها الفريضة التي لا تسقط عن المسلم بحال أبداً . فقد تكون فقيراً فلا تلزمك الزكاة ، وغير مستطيع فلا يلزمك حج ، ومريض أو مسافر فلا يلزمك صوم . أما الصلاة فلا يُسقِطها عنك شيء من هذا كله ، فإنْ كنت غير قادر على القيام فلك أنْ تُصلِّي قاعداً أو مضطجعاً أو راقداً ، تشير بطرفك لركوعك وسجودك ، ولو حتى تجري أفعال الصلاة على قلبك ، المهم أن تظلّ ذاكراً لربك متصلاً به ، لا يمر عليك وقت إلا وهو سبحانه في بالك . وقلنا : إن ذكر الله في الأذان والإقامة والصلاة ذِكْر دائم في كل الوقت لا ينقطع أبداً ، فحين تصلي أنت الصبح مثلاً غيرك يصلي الظهر ، وحين تركع غيرك يسجد ، وحين تقول : بسم الله الرحمن الرحيم . غيرك يقول : الحمد لله رب العالمين … الخ . فهي عبادة متداخلة دائمة لا تنقطع أبداً لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطباً الزمن : يا زمن فيك كل الزمن . يعني : في كل جزئية من الزمن الزمن كله ، كأنه قال : يا ظُهْر ، وفيك العصر ، وفيك المغرب ، وفيك العشاء ، وهكذا العالم كله يدور بعبادة لله لا تنتهي . وذكر من الصلاة الركوع والسجود لأنهما أظهر أعمال الصلاة ، لكن الركوع والسجود حركات يؤديها المؤمن المخلص ، ويؤديها المنافق ، وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُميِّز هذا من هذا ، فقال : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ … } [ الحج : 77 ] . فليست العبرة في حركات الركوع والسجود ، إنما العبرة في التوجّه بها إلى الله ، وإخلاص النية فيها لله ، وإلا أصبحت الصلاة مجرد حركات لا تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض أن يقول : الصلاة فيها تمارين رياضية تُحرِّك كل أجزاء الجسم ، نعم هي كما تقولون رياضة ، لكنها ليست عبادة ، العبادة أن تؤديها لأن الله تعالى أمرك بها . ثم يقول تعالى : { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] . والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف ، لكن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالخير - إذن - كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيماً يتعاون ويتساند لا يتعاند ، فإنْ جاء الأمر على هذه الصورة سَعِد المجتمع بأَسْره . ولا تنْسَ أن المنهج حين يُضيِّق عليك ويُقيِّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت ، وأنت المستفيد من تقييد الحركة لأن ربك قيّد حركتك وضيَّق عليك حتى لا تُلحِق الشر بالآخرين ، وفي الوقت نفسه ضيّق على الآخرين جميعاً أن يتحركوا بالشر ناحيتك ، وأنت واحد وهم كثير ، فمن أجل تقييد حركتك قيّد لك حركة الناس جميعاً ، فمَنِ الكاسب في هذه المسألة . الشرع قال لك : لا تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعاً : لا تسرقوا منه ، وقال لك : غُضّ بصرك عن محارم الغير وأنت واحد . وقال لكل غير : غُضُّوا أبصاركم عن محارم فلان ، فكل تكليف من الله للخَلْق يعود عليك . فالمعنى : { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } [ الحج : 77 ] أي : الذي لا يأتي منه فساد أبداً ، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون ، فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ الأهواء وتعاندت ، والخير : كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى . ثم يقول سبحانه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] لكن ، أين سيكون هذا الفَلاَح : في الدنيا أم في الآخرة ؟ الفلاَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير ، فالفَلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أيِّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير ، مجتمع يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وعندها لن ترى في المجتمع تزاحماً ولا تنافراً ولا ظلماً ولا رشوة … الخ هذا الفلاح في الدنيا ، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة . إذن : لا تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئاً عليكم لأنها في صالحكم في الدنيا ، وبها فلاح دنياكم ، ثم يكون ثوابها في الآخرة مَحْض الفضل من الله . وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته " ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها ، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى : { وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] . وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] نعرف أن لعل أداة للترجي ، وهو درجات بعضها أرْجى من بعض ، فمثلاً حين تقول : لعل فلاناً يعطيك ، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه ، فإنْ قلت : لعلِّي أعطيك . فالرجاء - إذن - في يدك ، فهذه أرجى من سابقتها ، لكن ما زلنا أنا وأنت متساويين ، وربما أعطيك أولاً ، إنما حين تقول : لعل الله يعطيك فقد رجوْتَ الله ، فهذه أرجى من سابقتها ، فإذا قال الله تعالى بذاته : لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها لأن الوعد من الله والرجاء فيه سبحانه لا يخيب . ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ … } .